قمة القاهرة الثلاثية.. توازنات قوى جديدة في شرق المتوسط

إن نتائج قمة القاهرة الثلاثية تعكس واحدا من أهم التحولات الجیوسیاسیة الجاریة حاليا في المنطقـة.
تشكل القمة الثلاثية التي عقدت في القاهرة 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره القبرصي نيكوس أناستاسياديس ورئيس وزراء اليونان الجديد كيرياكوس ميتسوتاكيس، تكريسا لتحالف إقليمي مؤثر بين القاهرة ونيقوسيا وأثينا، من شأنه التأثير الإيجابي على التغيرات الاستراتيجية التي طرأت على منطقة شرق البحر المتوسط منذ الاكتشافات الهائلة لثروة ضخمة من الغاز الطبيعي في عام 2009.
- حلم "مركز الطاقة" يقترب.. غاز حقول المتوسط يصب في مصر
- بدعم دولي.. تحركات مصرية منظمة لجني ثمار غاز المتوسط
فهذه القمة، التي تعد السابعة من نوعها في إطار آلية التعاون الثلاثي أصبحت تؤدي دورا رئيسيا ليس فقط على مستوى تعزيز الاستثمارات المشتركة والتعاون الاقتصادي، وإنما أيضا على المستوى الاستراتيجي من خلال إعادة رسم خارطة القوى الإقليمية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
كما أن انتظام عقد هذه القمة سنويا بين قادة الدول الـ3، يعكس حرص هؤلاء القادة على تنسیق الجهود لإعادة ترتیب الأوضاع الأمنية والاقتصادية في المنطقـة، بما یخدم المصالح المشترکة لهذه الدول، والتي أصبحت تتجاوز المصالح الخاصة بالغاز الطبيعي وترسيم الحدود البحرية إلى بناء كيان إقليمي ضاغط ورادع للقوى المزعزعة للاستقرار والأمن في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا، والجماعات الإرهابية ذات الأيديولوجيات المتطرفة، وموجات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، التي أصبحت تشكل مصدر قلق لحكومات دول منطقة البحر المتوسط.
وقد جاءت قمة القاهرة الأخيرة في ظل توتر وتصعيد خطيرين عقب إصرار تركيا على استفزازاتها بشأن غاز شرق المتوسط، وإرسال سفينة الحفر التركية "ياووز" للتنقيب عن الغاز في البلوك رقم 7 في المياه الإقليمية القبرصية في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهي منطقة منحت قبرص بالفعل تراخيص لشركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية للعمل فيها.
وهو الأمر الذي أشعل ردود فعل غاضبة من جانب العديد من القوى المؤثرة في المنطقة، حيث أدانت قبرص الخطوة التركية مشيرة إلى أنها بمثابة "تصعيد حاد وتحد صريح" للحقوق السيادية لنيقوسيا، واعتبرت قبرص أن أنقرة تعرض الاستقرار والأمن الإقليميين للخطر عن طريق اختيار الخروج بشكل لا رجعة فيه عن الشرعية الدولية، مضيفة أنها لن تستسلم "لتكتيكات تهديد وتنمر" من حقبة ماضية.
وجاء تأكيد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على أن تنقيب تركيا عن الغاز في المياه القبرصية "غير قانوني وغير مقبول"، محذرا من مغبة التصرفات التركية الأحادية، ووعد بردّ قاسٍ حال تمادي أنقرة في انتهاكاتها للحقوق القبرصية. وفي يوليو الماضي، اتهمت اليونان تركيا بتقويض الأمن في شرق البحر المتوسط من خلال التنقيب عن النفط والغاز حول قبرص.
كما أصدرت مصر وعدد كبير من دول المنطقة بيانات رسمية تستنكر فيها "التصرفات الطائشة" من جانب انقرة في هذا الخصوص. وبذلك، وجدت تركيا نفسها وحيدة في ظل انتقادات دولية وأوروبية وإقليمية لقرارها الأحادي بالتنقيب على الغاز والنفط قبالة سواحل قبرص، بما في ذلك فرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي.
وربما باستثناء "التصعيد التركي" غير القانوني والمستفز، جاء انعقاد القمة الثلاثية الأخيرة في ظل تطورات إيجابية سريعة تشهدها علاقات الدول الـ3، ما فتح آفاقا جدیدة لهذه العلاقات إلى درجة عالیة لم تکن متوقعة بالسرعة التي تمت بها، في ظل حالة اللاسلم واللاحرب التي سادت مجمل أوضاع منطقة شرق البحر المتوسط طیلة النصف قرن الماضي، نتيجة استمرار الأزمة القبرصية وعدم تسوية الصراع العربي الإسرائيلي ثم اندلاع الأزمة السورية في السنوات الأخيرة، ولعل من أبرز هذه التطورات ما يلي:
• أولا، إعلان 7 دول (وهي مصر، واليونان، وقبرص، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل) عن إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط" في يناير 2019، ومقره القاهرة. ومن المنتظر أن يكون هذا المنتدى بمثابة آلية مهمة لتنسيق سياسات الغاز، وتحقيق المواءمة بين قطاع الطاقة وبين التنمية المستدامة، خاصة مع اتفاق هذه الدول على تكثيف المشاورات لترفيع المنتدى إلى مستوى منظمة إقليمية، خاصة مع زيادة حضور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أنشطة المنتدى.
• ثانيا، تزايد التعاون الاقتصادي بين الدول الـ3، نتيجة التوقيع على عدد من الاتفاقات المهمة، والتي من أهمها: الاتفاقية الإطارية بين الشركة المصرية القابضة للكهرباء والشركة الأوروبية الإفريقية للربط الكهربائي في 22 مايو 2019، والتي تهدف إلى إنشاء شبكة كهربائية بين مصر وقبرص واليونان، وكذا التوقيع على اتفاق منع الازدواج الضريبي بين مصر وقبرص، هذا إلى جانب توقيع مصر وقبرص رسميا في 18 سبتمبر 2018 على أول اتفاق من نوعه لإقامة خط أنابيب بحري مباشر، بتكلفة تصل إلى نحو مليار دولار لنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي إلى تسهيلات الإسالة بمصر (في محطتي إدكو ودمياط) وذلك من أجل إعادة تصديرها إلى الأسواق العالمية.
• ثالثا، أسهمت آلية التعاون الثلاثي بين القاهرة ونيقوسيا وأثينا في لعب دور إيجابي لتحقيق قدر أكبر من التقارب بين الدول العربية والدول الأفريقية من جانب، ودول الاتحاد الأوروبي من جانب آخر، خاصة بعد النجاح الذي حققته القمة العربية الأوروبية الأولى بمدينة شرم الشيخ في فبراير 2019. ومن المنتظر أن تواصل هذه الآلية هذا الدور مع قرب موعد انعقاد الدورة الرابعة من قمة الاتحاد الأوروبي-العالم العربي، المقرر انعقادها في أثينا يومي 29 و30 أكتوبر 2019، وفي ضوء بدء تفعيل اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية، والأهمية التي توليها مصر للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي تجعل منها بوابة عبور لكثير من المنتجات العالمية للنفاذ إلى السوق الأفريقي.
• رابعا، نجاح الدول الـ3 في تعزيز تعاونها العسكري والاستراتيجي، وهو ما تمثل في إجراء مناورات "ميدوزا 8" مؤخرا. ويشير المراقبون إلى أن هذه المناورات كانت من أكبر التدريبات البحرية الجوية المشتركة التي تنفذ في البحر المتوسط، وقد اشتملت على تنفيذ العديد من الأنشطة منها، على سبيل المثال، قيام القوات بتخطيط وإدارة أعمال قتال جوية وبحرية مشتركة، والتدريب على أعمال الاعتراض البحري وأعمال الإمدادات والتزود بالوقود ومكافحة الغواصات، كما تضمنت أيضا مكافحة أعمال التهريب والهجرة غير الشرعية، وتنفيذ حق الزيارة والتفتيش واقتحام السفن المشتبه بها وأعمال الإبرار البحري والجوي، بمشاركة عناصر من قوات الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة البحرية في الدول الـ3.
وفي ظل هذه التطورات الإيجابية، يبدو أن التعاون المصري اليوناني القبرصي سوف يؤدي دورا كبيرا في تشكيل توازن قوى جديد ومؤثر في مستقبل منطقة شرق البحر المتوسط، خاصة وأنه يحقق كثيرا من المصالح والأهداف المشتركة للدول الـ3 في الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية.
ويسهم تعاون الدول الـ3 في "ردع" أنقرة وكبح جماح أنشطة تركيا المزعزعة للاستقرار في المنطقة؛ لذلك لم يكن غريبا أن يجدد قادة الدول الـ3 في قمة القاهرة الأخيرة، تحذيرهم من "التوتر، والتصعيد" في منطقة شرق المتوسط، جراء "التحركات الأحادية" التركية للتنقيب عن مكامن الغاز أمام سواحل "قبرص الشمالية" التي لا تعترف بها سوى أنقرة، كما أدان قادة مصر واليونان وقبرص الإجراءات التركية في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص ومياهها الإقليمية، والتي تمثل انتهاكا للقانون الدولي، وكذلك المحاولات الجديدة من جانب أنقرة لإجراء عمليات تنقيب بشكل غير قانوني في مناطق بحرية تم ترسيم حدودها وفقا للقانون الدولي.
كما أعربوا أيضا عن قلقهم العميق من العملية العسكرية غير القانونية وغير المشروعة التي أعلنت تركيا شنها في الأراضي السورية، مؤكدين ضرورة العمل للحفاظ على وحدة الدولة السورية وسلامتها الإقليمية، كما أدانوا أيضا بشكل قوي "أي محاولة تركية لتقويض وحدة الأراضي السورية أو القيام بأي تغييرات ديمغرافية متعمدة في سوريا".
ومن جهة أخرى، أعرب رؤساء الدول والحكومات الـ3 عن قلقهم البالغ إزاء وصول المحادثات بين مصر وإثيوبيا والسودان إلى طريق مسدود، مؤكدين الحاجة إلى دور دولي فعال للتغلب على الجمود الذي تشهده المفاوضات في الوقت الحالي، وأعاد القادة الـ3 تأكيدهم أن الاتفاقيات السابقة، خاصة إعلان المبادئ الموقع في عام 2015، والذي ينص على ضرورة التوصل إلى اتفاق مصر وإثيوبيا والسودان على قواعد الملء والتشغيل الخاصة بسد النهضة، والالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم، والعمل بمبدأ الاستخدام العادل والمنصف، يجب أن تكون الأساس للتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن.
- قبرص تودع سنوات التقشف وتسدد قرضا روسيا قبل موعده بعامين
- إيني وتوتال تتشاركان استكشافا جديدا للغاز والنفط قبالة قبرص
ومن ناحية ثانية، ترى اليونان وقبرص أن التعاون مع مصر في المستقبل ضروري، حيث يمكن أن تؤدي القاهرة دورا مهما في تأمين استقرار طويل الأجل على جانبي المتوسط، فعلى سبيل المثال، أصبحت مصر شريكا استراتيجيا للدولتين في مواجهة الهجرة غير الشرعية، خاصة بعد أن نجحت القاهرة في إيقاف رحلات الهجرة من مصر إلى الاتحاد الأوروبي منذ 2016، وهو ما دفع العديد من الدوائر الأوروبية إلى المطالبة بإشراك مصر في حل معضلة التعامل مع اللاجئين والمهاجرين.
واقتصاديا، يحل التعاون المصري القبرصي المشكلة الوحيدة المتبقية لتصدير الغاز القبرصي المكتشف في شرق المتوسط إلى أوروبا، ما يفتح الباب واسعا أمام نيقوسيا للحصول على موارد مالية ضخمة نتيجة تطوير حقل أفروديت للغاز الطبيعي.
كما أن هذا الأمر سوف يعود على القاهرة بعوائد مالية مهمة نتيجة رسوم العبور والضرائب والجمارك وغيرها، خاصة وأن مصر لديها محطتان لتسييل الغاز الطبيعي في مدينتي إدكو ودمياط، وتبلغ قدرة هاتين المحطتين 11.48 بليون قدم مكعب/عام و7.56 بليون قدم مكعب/عام على التوالي، وبالتالي فإن إجمالي قدرة تصدير الغاز الطبيعي المسال في مصر يصل إلى نحو 19 مليار متر مكعب.
ومن ناحية أخرى، يمكن أن تستفيد اليونان وقبرص اقتصاديا وتجاريا من اتفاقيات التجارة الموقعة بين مصر والكيانات الأفريقية وخاصة الكوميسا، ومن تنفيذ برامج سياحية مشتركة بين الدول الـ3، كما أن شركات يونانية وقبرصية عديدة أبدت اهتماما ببحث إمكانية الاستثمار في منطقة محور قناة السويس بينما تسعى مصر للاستفادة من خبرة اليونان وقبرص في إدارة الموانئ والربط بين موانئ الدول الـ3 لخدمة التجارة البينية والعالمية.
وفي ضوء كل هذه الاعتبارات، يمكن القول إن نتائج قمة القاهرة الثلاثية تعكس واحدا من أهم التحولات الجیوسیاسیة الجاریة حاليا في المنطقـة، وهو تنامي الشراكة الإستراتيجية بين مصر واليونان وقبرص لتحقيق المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية المشتركة. وهذه الشراكة المتنامية، على الأرجح، لن تسهم فقط في تشكيل حلف سياسي واقتصادي جديد يمكن أن يسهم في تحقيق الأمن والتنمية في المنطقة، وإنما أيضا في تحويل منطقة شرق البحر المتوسط إلى منطقة رخاء مشترك، وذلك على خلفية ثروات الغاز الطبيعي الضخمة الموجودة بالمنطقة. فالتعاون بين مصر وقبرص واليونان لن تستفيد منه الدول الـ3 فحسب، ولكنه سوف يمثل أيضا فائدة كبرى لكثير من القوى الأخرى في المنطقة وفي العالم.