الإمارات وفرنسا.. نموذج استراتيجية القوة الثقافية
تعدّ العِلاقات الثّقافية بين دولة الإمارات وفرنسا عنصرا مهمّا في العلاقات الثنائية المشتركة بين البلدين، حيث غدت نموذجا استثنائيا.
وشهدت السنوات الأخيرة تطورات مهمة في العلاقات الثقافية بين البلدين تجّلت نتائجها في احتضان أبوظبي لمشروعين مهمين هما: جامعة السوربون أبوظبي، ومتحف اللوفر أبوظبي، فضلاً عن دور المعهد الفرنسي، والمصلحة الثقافية في السفارة، والرابطة الفرنسية في دبي، وشبكة المدارس التعليمية الفرنسية في الإمارات في تعزيز وترسيخ العلاقات الثقافية بين الجانبين.
فرنسا صاحبة اللوفر هي التي حولت الثقافة إلى أهم عناصر قوة الدولة، ودولة الإمارات هي من جعلت الثقافة رمزا لشخصية الدولة وجعلت الدبلوماسية الثقافية رمزا للتواصل الحضاري بين العالم.
في الخمسينيات من القرن الماضي، اشتكى رجال البرتوكول في قصر الإليزيه للرئيس شارل ديجول من أنه كيف يسمح لوزير الثقافة للأديب الفرنسي العالمي أندريه مالرو بأن يجلس على يساره خلال الاجتماعات، في حين أن المفروض أن يجلس بجوار أهم شخصية في فرنسا رجال الوزارات السيادية وخاصة الخارجية والدفاع.
ولكن جواب ديجول على هذه الشكوى كان صادما، إذ قال لهم يجب تصحيح معلوماتكم، أنا من يجلس على يمين مالرو وليس هو الذي يجلس العكس، في إشارة إلى أهمية الرجل، وأهمية أهم شخص الذي يجلس على أهم وزارة من وجه نظر ديجول.
سياسة الثقافة
وفي كتابة "سياسة الثقافة أو ثقافة السياسة.. تجربة فرنسا" يقول "سيريجي إيفانوفيتش كوسينكو": "لا جدال فيه أن تاريخ وثقافة فرنسا، موطن حرية الرأي، يشغلان مكانة مرموقة في خزينة الثروات الروحية العالمية، بيد أن ذلك لم يحدث من تلقاء نفسه، وإنما بفضل سياسة ثقافية موجهة، دائماً ما يسترشد رجالات الدولة الفرنسيون في تطبيقها بالمصالح الوطنية لبلدهم قبل كل شيء. على مدى السنوات الخمسين الأخيرة، وعلى الرغم من تعاقب حكومات ذات صبغة سياسية متباينة، تحافظ السياسة الثقافية لفرنسا على إرث تغوص جذوره في أعماق القرون، وعلى وجه التحديد يشكل تآلف التقليد التاريخي مع المبادئ الدستورية التي تحدد الطابع الديمقراطي للمجتمع الفرنسي، الأساس الشرعي والمتين للسياسة الثقافية لهذا البلد. مثلت الثقافة عموماً، و الخصوصية الثقافية على وجه الخصوص".
"سيريجي إيفانوفيتش كوسينكو" استهل كتابه بكلمات مقتبسة من رجل الدولة الفرنسي البارز إدوارد إيريو قال فيها: |الثقافة هي الشيء الذى يبقى في الإنسان عندما ينسى كل ما هو سواه".
أما الإمارات فهي منذ بداياتها على تطوير علاقاتها الخارجية وتقوية أواصر التعاون الدولي، وبناء شبكة علاقات دولية تركز على التبادل الثقافي والانفتاح الحضاري، وقد تمكنت من رسم خريطة القوة الناعمة، و تحديد مكانتها على طريق العالمية، استناداً إلى استراتيجية ثقافية مستدامة تشكل محطة انطلاق وتعكس الصورة الطموحة لمستقبل الدولة وتطلعاتها.
فالإمارات نموذج الدولة ذات الرسالة الثقافية بلد وزارتي السعادة والتسامح، وعاصمة العالم الإنسانية، صاحبة الأيادي البيضاء في منظومة "التطوع والعطاء واليد الممدودة دائماً بالإعانة".
الثقافة الإماراتية وصلت للعالمية، حيث تغلغلت في نسيج المجتمعات بجهود القيادة الحكيمة، التي بدأت مسيرة الدولة بالتوازي مع بناء الإنسان بالتعليم والثقافة استناداً إلى علاقتهما الوطيدة بصحة الإنسان الجسدية والنفسية والفكرية، وتمكنت من رسم خريطة القوة الناعمة، ووضع الإمارات على طريق العالمية، موضحة أن هذا النجاح يرجع إلى استراتيجية ثقافية مستدامة تشكل محطة انطلاق وتعكس الصورة الطموحة لمستقبل الدولة وتطلعاتها.
وفي تأكيد على تلك الإنجازات الناعمة، أوضحت أن الثمار كثيرة، تتجلى من خلال استضافة الإمارات لأهم الفعاليات الثقافية العالمية مثل إكسبو والأولمبياد والبينالي ومهرجانات المسارح والسينما والقمة الحكومية والعروض الأوبرالية والجوائز الثقافية الكبرى والموهوبين في المجالات كافة، بالإضافة إلى أقوى العلامات التجارية في الأزياء والديكور والمجوهرات.
تاريخ العلاقات الثقافية بين الإمارات وفرنسا
سعى المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، إلى تعزيز الأواصر الثقافية بين الإمارات وفرنسا، وكانت أولى زياراته بعد إعلان الوحدة الإماراتية، إلى بريطانيا وفرنسا، وتم بعدها افتتاح الرابطة الثقافية في أبوظبي، ثم معهد لويس ماسنيون.
وفي عهد الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، تم افتتاح جامعة السوربون أبوظبي، والمعهد الفرنسي، وافتتاح متحف اللوفر أبوظبي، الذي يعتبر من أكبر وأهم المشاريع الثقافية التي تعمل على تعزيز التواصل الحضاري والثقافي بين فرنسا والإمارات، فهو امتداد لمتحف اللوفر في فرنسا الذي يعتبر من أعرق المتاحف، ويشمل المتحف كل الفنون من كل القارات، وهو الأول من نوعه في المنطقة العربية.
الإمارات وفرنسا.. علاقة ثقافة مستدامة
يقول الكاتب الصحفي الدكتور شاكر نوري، إن الشواهد الواقعية الملموسة تؤكد عمق العلاقات الثقافية بين الإمارات وفرنسا، يدعمها التبادل التجاري باعتبار الإمارات ثاني أكبر شريك تجاري لفرنسا في المنطق، وهي علاقات مستدامة، وغير خاضعة لأية تغييرات سياسية قد تطرأ على المنطقة، مضيفا أن هذه العلاقات لم تأت عن طريق الصدفة بل تقوت بمرور الزمن، بدأت صغيرة ناشئة، ومن ثَمَّ توسعت وأضحت واقعا ملموسا.
وتابع: "دولة الإمارات خطَت كل من فرنسا والامارات خطوات جريئة في هذا الميدان، بإقامة مشاريع استثنائية لم يكن يتصور المراقب بأنها ستكون على هذه الأهمية على الصعيد الثقافي والعلمي، بل وأعطت ثمارها بمرور الزمن، وخاصة بعد الانفتاح الإماراتي على التنوع اللغوي الذي يؤكد على ترسيخ روح التسامح والتعايش بين الحضارات".
وأكمل: "لقد خطت كل من فرنسا والإمارات خطوات جريئة في هذا الميدان، بإقامة مشاريع استثنائية لم يكن يتصور المراقب أنها ستكون على هذه الأهمية على الصعيد الثقافي والعلمي، بل وأعطت ثمارها بمرور الزمن، وخاصة بعد الانفتاح الإماراتي على التنوع اللغوي الذي يؤكد ترسيخ روح التسامح والتعايش بين الحضارات على اختلاف دياناتها وأعراقها وثقافاتها".
واختتم: "ولا نضيف جديدا لو قلنا أن ترسيخ العلاقات الثقافية بين البلدين يلقى دعم الدولة، ولا يوجد أبلغ مما قاله الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، مؤكدا أن العلاقات الثقافية بين البلدين تمثل جانبا أساسيا ومهما، وتجسد الاهتمام المشترك بدور الثقافة. هناك قواسم مشتركة بين البلدين، منها: دعم روح الابتكار، ترسيخ دعائم الفنون، استكشاف الذكاء الاصطناعي، إحياء الفعاليات الفنية والأدبية والأسابيع الثقافية، حماية التراث، ومحاربة الإرهاب. إن الثقافة، بأبعادها المتنوعة، هي الحصن الذي يدافع عن القيم الإنسانية التي لا تتأثر بالتغييرات السياسية أبدا".
تطورات الشراكة الثقافية بين الإمارات وفرنسا
وبحسب موقع السفارة الإماراتية في باريس، شهدت الشراكة الثقافية بين دولة الإمارات والجمهورية الفرنسية تطورات مهمة في السنوات الأخيرة، وقد جرى في أكتوبر 2018، الإعلان عن عام التعاون الثقافي الإماراتي الفرنسي في باريس، ونتيجة لذلك، تم إطلاق إذاعة باللغة الفرنسية في دولة الإمارات تبث برامجها بمعدل 3 مرات في الأسبوع.
وفي ديسمبر 2018، أصبحت دولة الإمارات عضواً منتسباً في المنظمة الدولية للفرانكوفونية، كما تم في نوفمبر 2018 افتتاح متحف اللوفر في أبوظبي، وهو أول متحف دولي في العالم العربي وأكبر مشروع ثقافي لفرنسا في الخارج.
وقد أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال حفل الافتتاح إلى أن هذا الحدث يعتبر رسالة عالمية لتعزيز الحوار بين الحضارات.
كما تم في وقت سابق، من العام 2006، توقيع اتفاقية إنشاء جامعة السوربون في أبوظبي.
ونتج عن التعاون الثقافي الإماراتي الفرنسي إنشاء التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ALIPH) في عام 2016، حيث ساهمت دولة الإمارات وفرنسا بمبلغ 45 مليون دولار أمريكي بالتعاون مع اليونسكو.
كما ساهمت دولة الإمارات بمبلغ 5 ملايين يورو لدعم معهد العالم العربي في باريس عام 2017، وتم في العام نفسه افتتاح قاعة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في متحف اللوفر في باريس.
علاوة على ذلك، ساهمت دولة الإمارات في ترميم المسرح الإمبراطوري لقصر فونتينبلو بالقرب من باريس بمساهمة قدرها 10 ملايين يورو، وبناءً عليه سمي المسرح باسم الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان.
الأبحاث العلمية والحوار الثقافي
فيما يتعلق بدعم الأبحاث العلمية وتعزيز الحوار الثقافي، أعلنت الإمارات تقديم منحة قدرها 5 ملايين يورو لمعهد العالم العربي في باريس، الذي احتفل العام الماضي بمرور 30 عاماً على تأسيسه، كما لعب دوراً فعالاً في عملية تعزيز الحوار بين الثقافات، بين العالم العربي وفرنسا وأوروبا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وقعت وزيرة الثقافة الفرنسية فرنسواز نيسين ونظيرتها الإماراتية نورة بنت محمد الكعبي وزيرة الثقافة وتنمية المعرفة الإماراتية اتفاقاً لتعزيز الحوار الثقافي بين البلدين عبر مبادرات جديدة.
اللغة الفرنسية والتعليم
يعمل الجانبان، الإمارات وفرنسا، على إعادة تدريس اللغة الفرنسية في المدارس العامة بالإمارات، وتطوير تدريسه في المدارس الخاصة، كذلك تعزيز تدريب المعلمين.
ووقع الجانبان اتفاق تعاون بين المدرسة الوطنية للقضاء والإدارة القضائية في أبوظبي، بهدف الإسهام في تطوير القضاة في الإمارات، كما اتفق الجانبان على عملية توسيع مدسة "تيودور مونود" الثانوية الفرنسية، على جزيرة السعديات في أبوظبي.
وشهدت الشراكة الثقافية بين دولة الإمارات والجمهورية الفرنسية تطورات مهمة خلال السنوات الأخيرة، وجرى في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، الإعلان عن عام التعاون الثقافي الإماراتي الفرنسي في باريس ونتيجة لذلك، تم إطلاق إذاعة باللغة الفرنسية في دولة الإمارات تبث برامجها بمعدل 3 مرات في الأسبوع، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2018، أصبحت دولة الإمارات عضواً منتسباً في المنظمة الدولية للفرنكوفونية.
وفي مجال التعليم تشكل المدارس الثانوية الفرنسية السبع المعتمدة في دولة الإمارات سادس أكبر شبكة مدارس فرنسية في العالم من حيث الالتحاق، وتضم أكثر من 10000 طالب، وفي عام 2018 تم تنفيذ برنامج المرحلة التجريبية لإدخال اللغة الفرنسية في جميع المدارس الحكومية في الإمارات حيث يتعلم الان أكثر من 60 ألف تلميذ اللغة الفرنسية في المدارس الحكومية والخاصة في الدولة.
ويبلغ تعداد الجالية الفرنسية التي تقيم على ارض الإمارات نحو 25 ألف شخص وهي الأكبر على مستوى منطقة الخليج العربي، وتحرص فرنسا على المشاركة في مختلف الأنشطة والمعارض الدولية التي تقام على أرض دولة الإمارات، وفي هذا الإطار جاءت مشاركتها المتميزة في فعاليات "إكسبو 2020 دبي" بجناح خاص بها بعنوان "الضوء والأنوار" الذي مثل واجهة الرؤية والمهارة الفرنسية على الصعيد الدولي.