يستحضر أردوغان من التاريخ أحداثاً غابرة تداعب مخيلته العدوانية وتتماهى، كما يبدو، مع صَلَفه الشخصي والسياسي.
اليقظةُ الأوروبية حيال مخطط أردوغان الرامي إلى التسلل إلى حدائق القارة الخلفية عبر سياسة القضم التدريجي لبعض مناطق نفوذها كما هو حاصل الآن في ليبيا أضحت محورَ تحركات عواصم الغرب، وانتقلت إلى مراحل متقدمة من التنسيق بعد أن أيقن الأوروبيون أن أردوغان لن يتوقف عند حدود ليبيا، ولا عند بعض مناطق بحرية شرق المتوسط يسعى للاستحواذ عليها بحجج واهية تحت عناوين التنقيب عن النفط والغاز وأحقية دولته بهما دون مراعاة حقوق الآخرين ومصالحهم.
يدرك ساسةُ أوروبا بعمق ما وراء التحركات التركية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، ويعلمون أن أردوغان يستدعي من التاريخ قوالبَ جاهزةً من حقب زمنية تجاوزتها الظروف والمتغيرات التي حصلت على الجغرافيا السياسية وعلى التحالفات الإقليمية والدولية، وكذلك على الدوافع المحرّضة للسياسة المعاصرة، ويعلمون أيضاً أن ما يقوم به التركي من مناورات وتحركات تكتيكية في البحر الأبيض المتوسط يخفي غايات أبعد من مجرد التنقيب عن الغاز والنفط؛ بل إنه يلامس حدود النوايا المبيتة ضد اليونان واستهدافها عسكريا.
أطماعُ أردوغان توضحت بعد الكشف مؤخراً عن وجود خطة قديمة يستند إليها في نزعته التوسعية شرق المتوسط تقوم على استراتيجية مؤداها غزو اليونان في نهاية المطاف، وهذه الخطة ظلت طي الكتمان إلى عام2014 عندما شاءت المصادفة أن يزيح الستارَ عنها موقعُ "نوردك مونيتور"السويدي ضمن ملفات سرية مرتبطة بتحقيقات أحد القضاة التابعين لأردوغان في قضايا جماعة غولن. هذه الخطة تحمل اسم القائد العسكري التركي في القرن الحادي عشر "جاقا بيه" الذي قاد أول رحلة عسكرية تركية في بحر إيجة وسيطر على ثلاث جزر يونانية في ذلك التاريخ وعلى الأراضي المحاذية لساحل بحر إيجة من الإمبراطورية البيزنطية بين 1088 و 1091 .
الإدراكُ الغربي لما وراء النزعة التوسعية الأردوغانية بحرياً شكل دافعاً ضاغطاً لهم للعمل باستراتيجية ذات رأسين؛ الأول سياسي حيث رفعت عواصمُ القرار في القارة الأوروبية صوتَها الموحد رفضاً لمساعي أنقرة واستراتيجيتها المبطّنة في المتوسط، والرأس الثاني عملياتي – ميداني تمثل بالزج بقطع عسكرية من صنوف أسلحة متنوعة في مياه المتوسط كرسالة ردع أولية للتمادي التركي . حاول أردوغان وأركانُ نظامه إيهامَ العالم أن الأطماع التركية والنهجَ التوسعي في الإقليم براً وبحراً ناجمةٌ عن مقتضيات الأمن القومي التركي ليس إلا؛ وبأن احتلالَ أراض في سوريا وليبيا والقفز بحرياً إلى الشمال الأفريقي العربي في ليبيا مستغلاً وجود حكومة السراج الإخوانية في طرابلس ما هو إلا استجابة لمتطلبات الدور المطلوب منه حفاظاً على مصالحه.
في كثير من المواقف والتحركات يستحضر أردوغان من التاريخ أحداثاً غابرة تداعب مخيلته العدوانية وتتماهى، كما يبدو، مع صَلَفه الشخصي والسياسي، لكنه يغفل عن منعطفات الجغرافيا وتضاريسها السياسية وما ترتبه على الجاهل بمنعرجاتها من انتكاسات وهزائم، فالتاريخ وحده لا يصلح أن يكون معياراً وحيداً للبناء إذا لم تكن الجغرافيا طيعةً لخدمته. اعتقادُ أردوغان أو توهمُه بأن اليونان تمثل بوابة العبور التاريخية نحو أوروبا دونه المهالك في واقعنا المعاصر عموماً، وبشكل خاص بعد أن تنبهت عواصمُ القرار الأوروبي لمخاطر التردد في مساندة اليونان كدولة أوروبية وشريكة أطلسية، ولذلك رسم الساسةُ الأوروبيون خطوطَهم الحمرَ على الجغرافيا "بحرياً" ضد أردوغان مستفيدين من عبَر التاريخ وليس العكس، وقد أتت هذه السياسةُ أُكلها حتى الآن لاعتمادها مسارين؛ أحدهما دبلوماسي حثيث، تشاوراً وتنسيقاً وتلويحاً بالضغوط المختلفة، وعدم استثناء فرض عقوبات وحصار على تركيا –أردوغان، والمسار الثاني عسكري بطابع استراتيجي كتنفيذ مناورات عسكرية مشتركة في مياه المتوسط، وإبرام اتفاقيات ثنائية بحرية، وتشكيل ما يعرف بالمناطق الاقتصادية البحرية، بحيث تكون حدودُ المنطقة الاقتصادية البحرية من ضمن سيادة الدول الموقعة عليها، فضلاً عن اتفاقيات مع دول غير أوروبية كاتفاقية مصر واليونان البحرية.
يراهن أردوغان على التاريخ لتفجير صراعات إقليمية على الماء وعلى اليابسة يكون طرفاً مباشراً فيها، ويغيب عنه وعن أركان نظامه أن التمددَ جغرافياً عبر الاحتلال والعدوان ثمنُه باهظٌ في ظل تبدل موازين القوى في العالم، وتناقض مصالحه مع شركائه الأطلسيين واستفزاز ذاكرة الأوروبيين بنزعته الانتقامية . لن يتمكن أردوغان من تحقيق رغبته بفرض سياسة الأمر الواقع أمام حائط الصد الأوروبي والدبلوماسية الهجومية التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي في مواجهته، وباتت تركيا – أردوغان مطوقةً بسبب سياسة الاستعلاء والعدوانية أكثر من أي وقت مضى، والانتكاسات المتلاحقة للاقتصاد تشكل عبئاً إضافياً على خططه ومشاريعه .
على الجانب التركي أن يجيدَ قراءة التحولات الحاصلة في الجانب الأوروبي، وتحديداً ما يتعلق بوحدة الموقف حيال النزعة التركية التي يتبناها أردوغان في سياق خططه التوسعية، ولعلّ في رد فعل الأوروبيين الحاسم حيال التمدد التركي في ليبيا ما يستلزمُ التعقلَ من جانب أنقرة ؛ فإذا كان موقفُ عواصم القرار الأوروبي بشأن حماية جغرافيا مصالحهم في الشمال الأفريقي العربي بهذا الحجم وبهذا الحسم؛ فمن الطبيعي أن تكون رداتُ أفعالهم وسياساتهم أكثر تحدياً وقوة حين يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية لناديهم الأوروبي وخطّهم المتقدم "اليونان"، وبذلك تغلق أوروبا النافذةَ أمام محاولات التسلل التركي التي استمرأها أردوغان في لحظات سابقة منتهزاً فرصة ارتباك السياسة الأوروبية . التاريخ يداعب مخيلةَ الرئيس التركي بإيحاءات مترهّلة؛ لكن جغرافيا العالم الجديد تحتم عليه الحذرَ كي لا تبتلعَ تضاريسُها واقعَه، وتدفنَ أحلامَه بين ثناياها .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة