اعتاد دارسو التنمية، سواء الاقتصادية أو السياسة أو الاجتماعية، أن ينطلقوا من تراث عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر "1864-1920".
و"فيبر" هو الذي وضع دستورا تاريخيا للتنمية والتغيير الاجتماعي في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".. حيث ردَّ كل النهضة الرأسمالية في أوروبا إلى ظهور البروتستانتية، وانبثاقها من رحم الكنيسة الكاثوليكية، وتقديمها رؤية جديدة للعقيدة المسيحية تقوم على أهمية العمل، وقيمة التمتع بالحياة، وأن الآخرة مرتبطة بهذا، فمن لا يحقق السعادة الدنيوية لنفسه وللآخرين لن يكون له نصيب في الجنة، التي كانت تقصرها الكاثوليكية على أولئك الذين "طلّقوا" الدنيا وزهدوا فيها جملة وتفصيلا.
ومنذ ماكس فيبر إلى الآن، هناك ما يشبه الإجماع بين العلماء والدارسين في العالم على أن الاقتصاد علم اجتماعي، أو علم سلوكي يرتبط بالمجتمع من حيث بنيته، وقيمه، وأخلاقياته، وعاداته، وتقاليده، وثقافته العامة، سواء المتعلقة بالعمل والإنجاز، أو المتعلقة بالتعامل مع الآخرين، ويرتبط كذلك بسلوكيات الفرد، وقيمه الشخصية، ومعايير سلوكه، ونظرته للحياة، وللسعادة، وللآخرين، وللزمن، وللمستقبل.
أي كل منظومة أخلاق الفرد وقيمه ومعاييره وما ينبثق عنها من سلوكيات، هذا هو أساس الاقتصاد.
أما العوامل المادية مثل الموارد الطبيعية، ورأس المال، والتكنولوجيا، والإدارة فتأتي بعد ذلك، لأن العنصر الإنساني هو الوسيط الذي تمر من خلاله كل العوامل الطبيعية، وهو الذي يوظفها ويعطيها المعنى الذي يجعلها ذات قيمة.
وقبل ماكس فيبر بمئات السنين، ربط عبد الرحمن بن خلدون، المتوفَّى 1406م، بين قيم المجتمع وأخلاقياته، وبين السياسة والاقتصاد، فقد اعتبر أن قيم المجتمع وأخلاقياته هي العامل الوحيد الذي يحدد مصير النظام السياسي والدولة برمتها، واعتبر أن المجتمع الذي يتمسك بالأخلاق النبيلة والصدق والأمانة والشهامة والتضحية من أجل الآخرين هو المجتمع القادر على إنشاء دولة فتية ناهضة قادرة على أن تتغلب على الظروف المحيطة، وأن تحمي نفسها، بل يتوسع نفوذها، أما المجتمع الذي تسوده قيم الاستهلاك والأنانية، والكسل والتراخي، وهيمنة الشهوات هو مجتمع مهدد بالانهيار، بل إن انهياره لا محالة حادث.
ووضع "ابن خلدون" مجموعة من القوانين الاجتماعية مثل "الترف مؤذنٌ بخراب العمران"، و"الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، والعمران عند "ابن خلدون" هو الحضارة بما تشتمل عليه من نظم سياسية واقتصادية.
الواقع القيمي والأخلاقي في بعض المجتمعات العربية، التي تحاول النهوض، لا يسمح بانطلاق نهضة اقتصادية حقيقية، لأن هذه المجتمعات فقدت كثيرا من منظومة أخلاقياتها، وهذا سوف يُجهضها، أو يحرّف مساراتها، لأنها مجتمعات في غالبيتها العظمى لا تؤمن بالخير العام، ولا يوجد لمفهوم المصلحة العامة موقع في ثقافتها، فقد ضرب الخراب منظومتها القيمية في الصميم، وأقصد هنا القيم الجماعية والفردية التي تتعلق بالفعل الحضاري والإنتاج الاقتصادي.
هذه المجتمعات تحتاج إلى ابتعاث نهضتها الأخلاقية بالتزامن مع النهضة الاقتصادية، وإلا فإن كل ما سيتم بناؤه مصيره معروف، فدون تغيير أخلاق المجتمع والفرد، لن تقوم نهضة اقتصادية حقيقية، ولن تحدث تنمية اقتصادية تُخرجها من حالة الركود، التي عاشتها طوال عقود ماضية، وهذه النهضة الأخلاقية لن تتحقق إلا إذا شاركت فيها جميع أجهزة صناعة الوعي من الحضانة إلى الجامعة، ومن المسلسل والفيلم إلى خطبة الجمعة، ومن البرامج المتلفزة إلى الإعلانات الضوئية على الطريق.. كذلك تحتاج إلى أن تتحول فيها خطب الجمعة وبرامج التلفاز والمسلسلات إلى تعليم الناس قيم النظافة، وتعليمهم خطورة الغش في البضائع على حياة الآخرين، وأن الغش مثل القتل، بل هو قتل حقيقي، وتعليمهم خطورة الكذب والتدليس، وتعليمهم أن المال الحرام كارثة، وتحتاج إلى أن تقوم مؤسسات التعليم بالتربية الأخلاقية قبل حشو العقول بالمعلومات المنفصلة عن الواقع.
كذلك فإن هذه المجتمعات تحتاج إلى القدوة والمثل الأعلى في كل جوانب الحياة حتى تستعيد عافيتها، وتحقق ما تصبو إليه من نهوض بعد كبوات مرت بها طوال عقود.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة