جوهر وجود الاجتماع الإنسانى يكمن في منظومة الأخلاق.
جوهر وجود الاجتماع الإنساني يكمن في منظومة الأخلاق التي تنظم علاقات الأفراد والجماعات، فبدون الأخلاق لن يكون هناك اجتماع بين البشر، ومن ثم ليس هناك مجتمع، لأن الأخلاق هي التي تردع الإنسان عن التجاوز والاعتداء على أخيه الإنسان، وهي التي تحول دون اندفاع أنانية الإنسان وطمعه وجبروته، وتجعل الإنسان قابلاً للتنازل عن بعض ما يريده حفاظاً على صورته ومكانته واحترام المجتمع له، لأن فكرة المكانة الاجتماعية في حد ذاتها هي نتيجة لوجود الأخلاق.
المجتمع ينشأ في الأساس على الأخلاق، وينتظم غالبية أفراده في سلوكياتهم وعلاقاتهم بوازع أخلاقي، ورغبة من التخلّق بهذه الأخلاق، والتزيّن بها، وتتحدد أخلاقيات المجتمعات طبقاً لمصادر متعددة، بعضها يستمدّ أخلاقه من التجربة والخطأ، وحكمة السابقين، والسوابق الاجتماعية، وبعضها يستمدّها من فيلسوف ملهم، أو حكيم قديم، أو شاعر عبقري، وغالب المجتمعات يستمدّ أخلاقه من الدين، أياً كان مصدر هذا الدين، وأياً كانت طبيعته، وهنا تكون الأخلاق أكثر إلزامية لارتباطها بالمقدّس، ووجود نوع من الثواب والعقاب الأخروي عليها، وفى كل الأحوال يكون العرف الاجتماعي هو مصدر الأخلاق ومحدد طبيعتها ونوعيتها، ومنظومتها.
وتعتبر الأخلاق مقياساً لاستقرار الأديان ورسوخها في المجتمع، فالدين الذي يحقق الاستقرار في المجتمع هو الدين الذي استطاع أن يتحول إلى قيم وأخلاق اجتماعية، وصار ثقافة مجتمعية، وصار عرفاً عاماً، أما الدين الذي لم يزل محصوراً في دور العبادة، وتتوقف قيمه عند حدود الطقوس الدينية فلم يستقر بعد في مجتمعه، والمقياس هنا هو أن يتحول مفهوم الحرام الديني إلى مفهوم العيب الاجتماعي، فإذا صار الحرام عيباً، هنا أصبح الدين ثقافة، وحقق أعلى درجات الاستقرار في المجتمع، والرسوخ في نفوس الأتباع، أما حين يكون الحرام الديني شيئاً مختلفاً عن العيب الاجتماعي، فهذا يؤشر إلى غربة الدين عن المجتمع.
نستطيع القول إن الأخلاق هى البناء، وأن الشريعة والقانون هما الحارس على هذا البناء، فالمجتمعات تبني بالأخلاق، والشريعة والقانون تأتيان لحماية هذا البناء والحفاظ عليه، لذلك كان حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم،إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
والناظر في المجتمع المصري خاصة والمجتمعات العربية التي توجد فيها أديان متعددة، قديمة وراسخة مثل العراق وسوريا والأردن وفلسطين، مثلا يجد أن العرف الاجتماعي متطابق مع المسيحية والإسلام، وأن المجتمع يملك منظومة أخلاق يستحيل معه أن تفرق بين مسلم ومسيحي … التأكيد هذا هو الحال قبل وصول التيارات الدينية التي حاولت نقل أعراف مجتمعات أخرى إلى هذه الدول.
ومن يتأمل في الشريعة الدينية أو الفقه، خصوصاً جانب المعاملات فيه يجد أنه يقوم على التسليم بمنظومة الأخلاق أولاً، حتى إن الفقه الإسلامي يعتبر العرف مصدراً للتشريع، وكذلك القانون ينظر إلى العرف على أنه كذلك، وهنا نجد أن كلاً من الشريعة والقانون يتعاملان مع الحالات الشاذة التي خرجت عن المجتمع، أو عن عرف المجتمع، أو عن أخلاق المجتمع، فالشريعة أو الفقه والقانون كلاهما يعالجان من يخالف الأخلاق، بحيث يمكن القول إن الأخلاق مسؤولة عن القاعدة المجتمعية، والشريعة والقانون تعالجان الاستثناء. وبذلك
نستطيع القول إن الأخلاق هى البناء، وأن الشريعة والقانون هما الحارث على هذا البناء، فالمجتمعات تُبنى بالأخلاق، والشريعة والقانون يأتيان لحماية هذا البناء والحفاظ عليه، لذلك كان حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم،إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولذلك كان جوهر الأديان منظومة أخلاق، وكان جوهر مفهوم الحرام الديني هو مخالفة الأخلاق، ولذلك كانت الأخلاق غاية كل فعل ديني، وغاية كل عبادة، وغاية كل تقرب إلى الخالق، وبدون تحقيق هذه الغاية لا قيمة للطقوس أو الشعائر الدينية ولا وزن لها في ميزان الدين ذاته.
ومن هنا فإن بناء المجتمعات واستقرارها يحتاج إلى منظومة أخلاق، وأن تقدم هذه المجتمعات وازدهارها لن يتم إلا بالأخلاق، وأن إصلاح المجتمع لابد أن يبدأ بالأخلاق، فبدون منظومة أخلاق مستقرة وراسخة، ومجمع عليها من أفراد المجتمع، يلتزمون بها، ويتخذونها مقياساً لتحديد قيمة الإنسان ومكانته، بدون ذلك لن يستطيع أي مجتمع أن يتطوّر أو يتقدم، أو يحقق أي إنجاز على أي مستوى، وهذا ما عرفته جميع الأمم على مر التاريخ، عرفت أن الأخلاق هي القاعدة الاجتماعية الأولى، وأن كل إنجاز مادي أو معنوي يتحقق في المجتمع يحتاج إلى أن يكون منطلقاً من قيمة خلقية، وساعياً إلى تحقيق قيمة خلقية، وتحرسه منظومة الأخلاق.
وفي واقعنا العربي عامة، والمصري خاصة نواجه تحدياً شديداً يهدد منظومة الأخلاق، بدون الأخلاق لن يستمر أي إنجاز مادي، ولن يحقق أهدافه، لذلك لابد من إعادة الاعتبار لموضوع الأخلاق والقيم في إستراتيجيات الدول، ووضعها في موضع متقدم في سلم الأولويات، وتوجيه كل الأجهزة والمؤسسات التي تتعامل مع وعى الإنسان منذ طفولته وحتى شيخوخته، وتمكينها من تحقيق رسالتها الأخلاقية…وهذه المؤسسات تشمل المؤسسات الدينية والتعليمية والثثقافية والإعلامية، هذا الرباعي الخطير الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى معول هدم لكل ما له صلة بالأخلاق يحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة؛ تعيد توجيه رسالة هذه المؤسسات جميعاً إلى القيام بدور إيجابي في كل ما يتعلق بالأخلاق، فالتعليم تربية خلقية أولاً، والدين المعاملة، الثقافة والفن تهذيب وارتقاء بالإنسان، والإعلام هو الوسيلة الأكثر تأثيراً في تدمير الأخلاق أو بناء الأخلاق، والدولة هي المسؤول الأول عن أخلاق وقيم شعبها.
نقلا عن "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة