الخلاصة هي أن التوقعات التي تسند المضاربة القائمة حاليا في الأسواق ليست قانونا أبديا بل هي نتيجة لتطورات
نشرت وكالة رويترز تقريرا تحت عنوان "توقعات النفط تتراجع والتوترات العالمية تفشل في رفع الأسعار" وجوهر هذا التقرير هو أن المعنويات قد تغيرت في سوق النفط بشكل كبير في الأيام الأخيرة، إذ تعتري نظرة المراهنة على انخفاض الأسعار كلا من صناديق التحوط والمنتجين والتجار على خلفية ما يرونه ضعفا في الطلب العالمي. وأن رهانات المضاربة على ارتفاع العقود الآجلة للخام الأمريكي والخيارات في بورصة نيويورك التجارية قريبة من أن تصل إلى أضعف مستوياتها منذ 2013. الخلاصة إذا هي أن التوقعات والمضاربة في سوق النفط تميل إلى جهة انخفاض الأسعار.
الخلاصة هي أن التوقعات التي تسند المضاربة القائمة حاليا في الأسواق ليست قانونا أبديا بل هي نتيجة لتطورات قد تشهد ما يعمل على عكس اتجاهها، حتى وإن بدت احتمالات ذلك محدودة في الأجل القصير
والمضاربة في الأسواق قائمة على التوقعات بتحركات قوى العرض والطلب في المستقبل وبالتالي مستوى الأسعار، ومن الناحية العملية فقد تصيب هذه التوقعات أو تخيب وهو ما يحمل معه خسارة أو ربحا لمن يقوم بالمضاربة. ومن أجل توضيح الصورة أكثر فإن المضاربة في الأسواق عمل مشروع، بل إن للمضاربين دون شك دورا مفيدا في الأسواق في الأحوال العادية، حيث يعد تدخلهم في الأسواق ملطفا إلى حد كبير من حدة الارتفاعات والانخفاضات في الأسعار. ففي حال زيادة الأسعار فجأة لظروف ألمت بالعرض المتاح مثل انقطاع مفاجئ للإمدادات من منتج ما فإن ارتفاع الأسعار يدفع المضاربين للتدخل ببيع ما في حوزتهم من عقود نفطية للاستفادة من ارتفاع السعر والعكس بالعكس.
إذ من المعروف أن المؤسسات التي تقوم بالمضاربة تفعل ذلك من أجل الربح القائم على توقع قد يصيب وقد يخيب باتجاه الأسعار في المستقبل. وبالتالي فإن تصنيف المتعاملين في الأسواق المستقبلية للسلع ومن بينها النفط يقوم بالتمييز بين "المتعاملين التجاريين" أي هؤلاء الذين يقومون بالبيع أو الشراء بصفتهم منتجين أو مستهلكين للسلعة أو وسطاء فيها، وبين "المؤسسات غير التجارية" أي تلك التي تقوم بالبيع أو الشراء من أجل تحقيق أرباح قائمة على توقع مرجح لاتجاه الأسعار في المستقبل، ولذلك غالبا ما يطلق على تعاملات المؤسسات غير التجارية في السوق النفطية "البراميل الورقية" حيث يقوم هؤلاء ببيع أو شراء ورقة هي "العقد" الذي يذكر فيه كمية محددة من براميل النفط تسلم في يوم محدد، وذلك دون أن تكون لهم صلة مباشرة بإنتاج أو استخدام النفط.
ومن الطبيعي أن حدة المضاربة والتفاوت في التوقعات تتزايد في الأوقات التي تتسم فيها العوامل الأساسية لقوى العرض والطلب بالضبابية وعدم الوضوح، ويمكن القول إن التوقع العام لانخفاض الأسعار مستقبلا يقوم على تحركات قوى العرض والطلب المنتظرة في ظل الظروف الراهنة.
ففي جانب العرض يشار إلى الارتفاع الكبير في الإنتاج من الدول خارج أطراف اتفاق أوبك+ لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أدى ذلك إلى زيادة ملحوظة في العرض ومع انخفاض مستوى الطلب هذا العام تقول وكالة الطاقة الدولية إن هذا سمح بإضافة نحو 900 ألف برميل يوميا إلى المخزونات في الدول المستهلكة خلال الستة أشهر الأولى من هذا العام.
وقد تم تغليب هذا البعد الإيجابي على أمور أخرى قد تقلص من العرض وبشكل خاص التوترات التي يشهدها الخليج العربي والتصرفات العدائية الإيرانية، إذ يشير تقرير رويترز على لسان أحد مصادره إلى أن تحركات مثل ما نشاهده الآن في مضيق هرمز كانت كفيلة منذ خمسة عشر عاما برفع سعر برميل النفط عشرين أو ثلاثين دولارا.
وربما ما يسند هذا التوقع بانخفاض الأسعار أيضا ما أعلنته وكالة الطاقة الدولية التي تضم الدول المستهلكة الرئيسية في العالم من أنها مستعدة للتحرك للإبقاء على نفط كافٍ بالسوق. وتم الإشارة إلى أن احتياطيات النفط المخصصة لحالات الطوارئ في دول وكالة الطاقة الدولية تبلغ 1.55 مليار برميل، كما أن هناك أيضا نحو 650 مليون برميل مخزون لدى القطاع الخاص يحق للحكومات السحب منها إذا اقتضت الضرورة.
لكن ربما مما يذهب في الاتجاه المعاكس من تعزيز العرض إقدام الدول أطراف اتفاق أوبك+ على تمديد خطة خفض الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا حتى نهاية الربع الأول من العام المقبل، حيث تذهب الرؤية إلى أن هذه الفترة سوف تكون كافية لامتصاص فائض المخزون فوق متوسط آخر خمسة أعوام لدى الدول المستهلكة.
وأيضا في ذات الاتجاه تأتي العقوبات المفروضة على كل من إيران وفنزويلا التي أدت إلى غياب أكثر من 1.5 مليون برميل يوميا على الأقل. أضف إلى ذلك الانخفاض الذي يحدث أحيانا في بعض البلدان المنتجة التي تعاني من أوضاع غير مستقرة سياسيا وأمنيا، كما شهدنا مؤخرا توقف الإنتاج من حقل "الشرارة" أكبر الحقول الليبية ما يؤدي إلى انخفاض العرض.
أما جانب الطلب فهناك جوانب ضعف تعتريه خاصة في ظل الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين التي أدت إلى إضعاف النمو الاقتصادي في أغلب بلدان العالم، وهي حالة من المتوقع أن تمتد ربما بشكل أقسى خلال العام المقبل. ونتيجة لهذا الضعف الاقتصادي باتت التوقعات هي انخفاض الطلب على النفط خلال العام الحالي وربما العام المقبل أيضا.
وأصبحت التوقعات السائدة هي نمو الطلب على النفط هذا العام بمقدار 1.1 إلى 1.2 مليون برميل يوميا بدلا من أكثر من 1.4 مليون برميل يوميا كانت متوقعة سابقا من قبل عدد من الجهات وعلى رأسها وكالة الطاقة الدولية.
التوقعات السائدة إذا تذهب إلى أن الغالب على الصورة هو اتجاه الأسعار للانخفاض مستقبلا نتيجة لوجود فائض عرض في الأسواق، ونتيجة لرؤية أن العوامل المؤثرة على هذا العرض بما فيها الأوضاع الجيوسياسية التي تشهدها بعض مناطق الإنتاج لن تكون كافية لرفع الأسعار.
ويفرض هذا بدوره تحديا على الأوبك وحلفائها في اتفاق أوبك+ فهل في حال تحقق هذا التوقع بالفعل يظل موقفها محايدا دون المزيد من التدخل في السوق. علينا فقط أن نضع في الاعتبار أن اتفاق أوبك+ الأول الذي طبق خلال الفترة من بداية عام 2017 حتى يونيو 2018 كان ينص على خفض الإنتاج بمقدار 1.8 مليون برميل يوميا، وهي كمية كفيلة في حال تبنيها مرة أخرى بأن تقلص إلى حد كبير من كمية فائض العرض. أضف إلى هذا أن احتمالات التوصل لحل للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تظل قائمة وهو ما قد يوفر فرصة لالتقاط الاقتصادي العالمي أنفاسه والعودة لتسجيل معدلات نمو أعلى وبالتالي مستوى أعلى من الطلب على النفط.
الخلاصة هي أن التوقعات التي تسند المضاربة القائمة حاليا في الأسواق ليست قانونا أبديا بل هي نتيجة لتطورات قد تشهد ما يعمل على عكس اتجاهها، حتى وإن بدت احتمالات ذلك محدودة في الأجل القصير. ولكن في كل الأحوال من المنتظر أن تشهد الدول أطراف أوبك+ تحديا في تحقيق هدفها بخفض مستوى المخزون لدى المستهلكين إلى المستوى المطلوب قريبا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة