على غير العادة تحظى الانتخابات الروسية هذه المرة بكثير من المتابعة في الولايات المتحدة وأوروبا.
وذلك لأسباب عدة قد يكون من أهمها الادعاءات الروسية بأن "العالم كله" يرغب في التأثير على نتائج هذه الانتخابات، على غرار ما كان يعلنه الساسة الأمريكيون -و هم على حق- بأن روسيا وغيرها كانت ولا تزال ترغب في التشويش على أي انتخابات أمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة.
ويُنهي الناخبون الروس اليوم المشاركة في الانتخابات التشريعية التي وُزعت على يومين، في استحقاق لا يخفى على أحد ما فرضته عليه الأوضاع الوبائية والسياسية والاقتصادية، من تأثير على الحملات الانتخابية للأحزاب الروسية، حيث غياب التجمعات الانتخابية الكبرى والفعاليات الموسيقية والفنية، التي غالباً ما رافقت "الأعراس الانتخابية" في روسيا خلال السنوات الأخيرة، وبالتالي وجدت الأحزاب والمرشحون في الدوائر الفردية ضالتهم في العالم الافتراضي، الذي يبدو أن روسيا تخشى أن تأتيها "ضربة التأثير على الانتخابات منه".
وقبل أن أتطرق لمواقف الإعلام والساسة في واشنطن تجاه مزاعم التدخل الأمريكي المحتمل في الانتخابات الروسية، كما ردد الساسة الروس منذ أسبوع وأكثر، فقد كان لافتاً للعالم تسريب مقاطع فيديو بتقنيات جديدة داخل موسكو تحضّ على المشاركة الكثيفة في الانتخابات، دون أن يتبناها أي طرف، وهو أمر غير معهود أبدا في أي انتخابات روسية سابقة، وقد دعت بعض الأطراف غير المعروفة إلى التسجيل في تطبيق "التصويت الذكي" لاختيار المرشحين الأوفر حظاً، لكن تم حذف التطبيق بشكل مفاجئ من متاجر "غوغل" و"آبل".
هذا التطبيق، الذي لا يوجد دليل قاطع على ارتباطه بشركات أمريكية، هو مشروع وضعه "صندوق مكافحة الفساد" للمعارض الروسي ألكسي نافالني، مما جعل الهيئة الفيدرالية الروسية للرقابة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام "روس كوم نادزور" تعلن مباشرة أنه تم حجب الوصول إلى موقع "التصويت الذكي" بسبب استخدامه مواصلة أنشطة "صندوق مكافحة الفساد" المحظور في روسيا بموجب قرار قضائي، بعد تصنيفه كـ"منظمة متطرفة" و"عميل أجنبي".
عموما، فإن مشروع "التصويت الذكي" عبارة عن أسلوب وضعه أنصار "نافالني" بغرض إضعاف الفرص الانتخابية لحزب "روسيا الموحدة" الحاكم، وذلك عبر حث الناخبين على التصويت لصالح أوفر المرشحين حظا عن أي حزب غير الحزب الحاكم، وهو على ما يبدو شأن لا علاقة للولايات المتحدة به.
نعود إلى السؤال، الذي يطرحه الإعلام الروسي حول التدخل الأمريكي، حيث الأخبار العاجلة عن تعرض نظام التصويت الإلكتروني لهجمات إلكترونية من الولايات المتحدة وأوكرانيا وألمانيا، حسب زعم نائب رئيس الغرفة الاجتماعية في موسكو، رئيس مركز مراقبة الانتخابات، أليكسي فينيديكتوف، الذي أعلن تعرض نظام التصويت الإلكتروني عن بُعد إلى هجمات إلكترونية "DDoS"، وأن الهجمات التي تم رصدها لم تؤثر على نظام التصويت عن بُعد في الانتخابات البرلمانية الروسية الحالية، وأن العمل مستمر بشكل طبيعي و"أن الهجمات الإلكترونية تسببت في انتظار الناخبين لفترة أطول، أي أكثر من 5 دقائق".
المواقف في واشنطن لا تأخذ المزاعم الروسية على محمل الجد، وأن ما تزعمه موسكو من احتمال تدخل شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى في الانتخابات التشريعية هناك هو وهم وتخيلات، وإلا لماذا لم تذكر موسكو هذه الشركات بالاسم، كما لم تحدد طبيعة المخالفات المشار إليها، بل إن كل ما ذكره "لافروف" عن وقائع التدخل الأمريكي في الشأن الروسي يتعلق برفض عدد من المنصات الأجنبية إزالة المحتوى المحظور، حيث قال ما نصه: "لن أخوض في التفاصيل حول هذه الحقائق.. تتعلق الحقائق برفض عدد من منصات الإنترنت الغربية إزالة المحتوى المحظور".
في رأيي، سبب المزاعم الروسية هو التوتر المسبق في العلاقة بين موسكو وواشنطن على خلفية مسائل عدة، بينها الاتهامات بتدخل روسيا في انتخابات الولايات المتحدة، وسجل روسيا في حقوق الإنسان، ولا يغيب عن بالنا أنه في مايو/أيار الماضي صنّفت روسيا الولايات المتحدة رسمياً على أنها دولة "غير صديقة"، وحظرت على سفارتها توظيف روس، كذلك فإن فريق الرئيس "بايدن" كذلك لا يلقون بالاً لهذه المزاعم الروسية، حيث أعلنت المتحدثة باسم "البيت الأبيض"، جين ساكي، أن الولايات المتحدة تواصل الحوار مع روسيا حول قضية الأمن السيبراني، دون أن تتوقع نتائج فورية منه.
في الخلاصة، وضمن هذا الإطار، فإن هناك شكوكا في أنّ الهجوم الذي استهدف الانتخابات الألمانية قبل فترة، يقف وراءه قراصنة من مجموعة "غوسترايتر" الروسية المتخصصة في نشر المعلومات، وما حسمته الاستخبارات الألمانية من أنّ قراصنة هذه المجموعة يحاولون الولوج على الدوام إلى حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بأعضاء في البرلمان الفدرالي في مجالس الولايات، وفي كل انتخابات داخل الاتحاد الأوروبي، تتّهم الاستخبارات العسكرية الروسية بالوقوف وراء الهجمات، التي تطال تلك الانتخابات، وغالبا، كما هو معروف، يزعم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن موسكو تتدخّل في الانتخابات الديمقراطية، واليوم لا يُنظر إلى ما يردده الإعلام الروسي عن مزاعم التدخل الأمريكي، إلا أنها استجرار للعواطف تجاه الانتخابات التشريعية الروسية، والتي هي جزء مهم من مساعي الرئيس فلاديمير بوتين لتعزيز قبضته على السلطة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة 2024، والتي تعد السيطرة على البرلمان مقدمة أساسية لها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة