منذ إعلان اليونسكو عام 1995 أن 16 نوفمبر هو اليوم العالمي للتسامح، والعالم يحتفي بالمناسبة لتأكيد هذه القيمة الإنسانية.
ففضيلة التسامح ما هي إلا قاعدة أخلاقية لتعايش البشر وسلام مجتمعاتهم، وقد لا يدرك البعض أن التسامح والتعايش في المجتمعات لا يتحققان دون المعرفة العميقة للخلفيات الثقافية والدينية لمكونات المجتمعات البشرية، دون تلك المعرفة العميقة لن يكون هناك تسامح حقيقي، لأن الجهل يُنتج بصورة تلقائية التعصب والتطرف والكراهية.
ومنذ توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في الإمارات عام 2019 وجدتُني مهتما بفهم أبعاد وأعماق شخصية البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وجذبني كثيرا اختياره الاسم الكنسي "فرنسيس" تيمنا بالبابا "فرنسيس الإسيزي"، المتوفَّى عام 1226، وهو أول صانع للسلام بين الشرق والغرب، فقد بادر بزيارة السلطان الأيوبي محمد الكامل، وهو الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي، والتقيا في دمياط عام 1219، واتفقا على إنهاء الحروب الصليبية وتحقيق السلام.
ومنذ شهور قليلة صدر كتاب بعنوان "فرنسيس.. فقير وراء جدران الفاتيكان" للباحث المفكر إميل أمين، فالمؤلف يجمع في شخصيته كل أبعاد مفهوم التسامح، فهو الكاثوليكي ديناً، المسلم ثقافة وحضارة، العربي انتماءً، المصري وطناً، الصعيديّ نشأة وعمقاً وخُلُقاً.. ما سمعته أو قرأت له إلا ووجدته يقول ما كنت سأقوله لو كنت مكانه.
يأخذنا مؤلف الكتاب في رحلة معرفية عميقة تغوص في أعماق التدين المسيحي عامة، والكاثوليكي خاصة، بروح العربي المصري، الذي ينتمي لحضارة الإسلام، يحلل في هذا الكتاب الموسوعي تاريخ البابوية على مدى 265 بابا قادوا الكنيسة منذ نشأتها إلى اليوم، يقدم تفصيلا للمؤسسة والإجراءات والمفاهيم والدلالات المصطلحية لكل تلك العمليات التي تحدث داخل حاضرة الفاتيكان، ثم يركز بصورة أساسية على تحليل شخصية البابا فرنسيس، ذلك الفقير الذي جاء لأول مرة في تاريخ الكنيسة من دول العالم الثالث، من الأرجنتين، والذي اقتدى بمن حمل اسمه البابا "فرنسيس الإسيزي" وانحاز للفقراء والضعفاء والمحرومين، وقدم نموذجا لرجل الدين الذي يحقق مقاصد عقيدته، ويتمثلها سلوكاً فعليا ليكون قدوة.
على مدى 316 صفحة يدخل بنا المؤلف في رحلة معرفية داخل أعماق الفاتيكان.. المؤسسة والتاريخ، والإجراءات، والطقوس، والدلالات، والأشخاص، ثم يأخذنا إلى مختلف خلفيات، وأبعاد، وجوانب شخصية البابا فرنسيس.
هذا العمل العلمي الرصين تحتاج إليه الثقافة العربية المعاصرة لوضع الأسس المعرفية للتسامح، ولبناء مجتمعات يتحقق فيها التسامح على معرفة حقيقية تخلق ثقافة الاحترام المتبادل رغم الاختلاف، الذي لا ينبغي أن يتحول إلى خِلاف.
وهنا ينبغي الإشارة إلى ما قام به الباحث العراقي الدكتور سعد سلوم، الذي نشر مجموعة من الكتب تقدم للقارئ العربي معرفة عميقة وشاملة حول المكونات الدينية في العراق.
هذا الإنتاج العلمي يأتي في وقت طغت فيه العواطف الجاهلة على العقل الواعي، لذلك انتشرت الكراهية والتعصب والتطرف.
إن ما تحتاج إليه الثقافة العربية هو فتح الآفاق للتعرف إلى مكونات المجتمعات العربية، معرفة عامة شاملة تصل إلى المختلفين، ولا يقتصر دورها على ترسيخ القناعات عند المقتنعين أصلا.. فالتسامح الحقيقي أن تعرف المختلف عنك، وتحترم اختلافه، ولا ترى فيه تهديدا، ولا تراه مختلفا معك.. وأن تعرف المختلف منه وليس عنه، فقد تعودنا أن نعرف الآخر من خلال الذات، أي من خلال كُتّاب ينتمون إلينا، وهذه صورة ذهنية وليست معرفة حقيقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة