يلاحظ أن اعظم الاقتصاديين منذ نشأة علم الاقتصاد كانوا أيضا ذوى اهتمامات فلسفية واضحة
الاقتصادى الإنجليزى الشهير جون مينارد كنيز (J.M. keynes) الذى لا يتردد كثيرون فى اعتباره أعظم اقتصاديي القرن العشرين، له مقال شهير كتبه سنة 1930 بعنوان (مستقبل أحفادنا الاقتصادي)، العنوان شيق، والمحتوى شيق أيضا، سواء قرأناه وقت ظهوره، أو قرأناه الآن، وفيه من التأمل الفلسفى أكثر مما فيه من الاقتصاد.
إنه لا يتكلم عن الحالة الاقتصادية التى ستكون عليها أحفادنا إلا من حيث حلول الوفرة محل الندرة، أى حلول عصر يكون من الممكن فيه إشباع الحاجات الإنسانية دون جهد أو دون جهد كبير، وإنما يركز كنيز كلامه فى هذا المقال على الأثر النفسى والفكرى الذى سيترتب على النجاح فى حل المشكلة الاقتصادية، واتجاه اهتمامات الناس الى مشكلات أكثر نبلا وأقل أنانية.
هذا الاتجاه الفلسفى لاقتصادى كبير ليس غريبا فى تاريخ الفكر الاقتصادي، بل يلاحظ أن اعظم الاقتصاديين منذ نشأة علم الاقتصاد كانوا أيضا ذوى اهتمامات فلسفية واضحة فآدم سميث مثلا، الذى يعتبر مؤسس علم الاقتصاد بكتابه (ثروة الأمم 1776) كان فى الأصل استاذا فى علم الأخلاق، وكارل ماركس الذى اشتهر أساسا بكتاب رأس المال (1867) يعتبره الماركسيون أنه لا يقل أهمية كفيلسوف منه كاقتصادي. وجون ستيوارت ميل (J.S.Mill) الذى يعتبر كتابه الصادر فى 1848 (مبادئ الاقتصاد السياسي) جامعا لكل الأفكار الكلاسيكية فى الاقتصاد، كتب أيضا كتابا شهيرا عن مبدأ المنفعة ومقالات مهمة فى معنى الحرية. وربما كان كنيز بكتابه الشهير (النظرية العامة فى العمالة وسعر الفائدة والنقود) 1936، ومقالاته وكتبه الأخري، هو آخر فريق الاقتصاديين/ الفلاسفة، ولكن هذا ليس غريبا بحلول عصر التخصص الضيق فى جانب صغير من أحد العلوم محل الميل إلى التعبير عن نظرة عامة للحياة، تمس أكثر من فرع من فروع المعرفة.
عندما نقرأ مقال كنيز الآن، قد يدهشنا تفاؤله بإمكانية انتهاء مشكلة الندرة الاقتصادية انتهاء تاما، بانقضاء مائة عام على وقت كتابته للمقال، وكذلك تفاؤله بأثر ذلك فى نوع تفكير الناس ونظرتهم للحياة. فها نحن بعد مرور ما يقرب من تسعين عاما على ظهور المقال لا نجد أى علامة مهمة على هذا أو ذاك. الناس مازالوا يشكون من مختلف مظاهر الندرة الاقتصادية، ليس فقط فى البلاد الفقيرة، بل وفى الغنية أيضا، ومازالت نظرتهم للحياة تحكمها إلى حد كبير (بل وقد يحكمها فى الأساس) المشكلة الاقتصادية أكثر من أى مشكلة أخري. كتب كنيز هذا المقال خلال السنوات الأولى لأزمة الثلاثينيات العالمية الشهيرة، ولكنه لم يتوقع (بعكس غيره) أن تستمر الأزمة طويلا، أو أن تكون هى نهاية النظام الرأسمالى (بعكس ما توقع البعض أيضا)، بل توقع (وكان محقا) أن يستمر بعدها التطور التكنولوجى الذى عرفه الناس قبلها، ولكنه توقع أنه بعد نحو مائة عام (وهنا كان بعيدا عن الحقيقة) ستكون مشكلة الندرة (أى قلة الموارد الاقتصادية بالمقارنة بالحاجات الانسانية) قد توارت إلى حد بعيد (ما لم تحدث زيادة كبيرة فى السكان أو تنشب حروب خطيرة تبدد فيها الموارد)، ومن ثم توقع أن يتجه الانسان إلى اهتمامات أخري.يقول كنيز إن مشكلة الندرة ظلت هى التى تحتل مكان الصدارة فى اهتمامات الانسان منذ بدء الخليقة، إذ لم يخترع الانسان وسائل جديدة لزيادة انتاجيته فى الزراعة والصناعة زيادة ملموسة إلا منذ نهاية القرن السادس عشر، فاستمرت وسائل الانتاج الأساسية تقريبا كما هى طوال تلك القرون السابقة على ذلك القرن (اللغة، النار، الحيوانات المستأنسة، المحراث، العجلة، المجداف، الشراع، الطوب..الخ)، واستمر الانسان بالتالي، حتى فى الدول التى تعتبر الآن متقدمة، أسير إمكاناته الاقتصادية المحدودة، ومهموما بمشكلة تخفيف أعباء الانتاج ومحاولة زيادة أوقات الفراغ. ثم تساءل كنيز: ما الذى يمكن أن يحدث للانسان ياترى بعد مائة عام، عندما تطول أوقات الفراغ، ويصبح بإمكانه التفكير والاهتمام بمشاكل أخرى غير المشكلة الاقتصادية؟ لم يتوقف كنيز طويلا ليحاول الاجابة على السؤال عما يمكن أن يفعله الانسان لملء أوقات فراغه، بل ذهب فورا إلى التساؤل عما يمكن أن يحدث من تغيير فى أخلاقه ونظرته للحياة. فإذا به يعبر عن تفاؤل لا نجد له مثيلا فى أيامنا هذه، النقود سوف تفقد سحرها، وتحقيق المزيد منها بزيادة الأرباح وادخارها لن يصبح هو الشاغل الأعظم للناس. زيادة الثروة فى المستقبل لن تصبح هدف أحد إلا من هم أشبه بالمرضى أو الذين يعانون من خلل عقلي، وسيركز الناس اهتمامهم على التمتع بالحاضر وما يقدمه من متع. ستزداد أهمية الدين، وستتحسن أخلاق الناس كلما قل اهتمامهم بتحصيل الثروة.
لماذا لم يتحقق تفاؤل كنيز فى كلا الأمرين؟ لماذا استمر شعور الناس بالمشكلة الاقتصادية ولم تنقص سيطرتها على تفكير الناس؟ ولماذا استمرت نظرة معظم الناس إلى الحياة وإلى العلاقات الاجتماعية محكومة أساسا بالاعتبارات الاقتصادية؟ إن التقدم التكنولوجى لم يتوقف قط خلال هذه التسعين عاما، وزادت الموارد والقدرة الانتاجية أضعافا مضاعفة منذ كتابة مقال كنيز، فلماذا لم يسفر هذا عن انحسار أهمية المشكلة الاقتصادية وسيطرتها على تفكير الناس؟ هل كان أحد يتوقع منذ تسعين أو مائة عام أن يحل المجتمع الاستهلاكى محل المجتمع الذى يعانى من ندرة السلع الأساسية؟ أو أن تملأ الاعلانات عن سلع جديدة شاشات التليفزيون وأوراق الصحف والجدران فى الشوارع كما تملأها الآن؟
لقد توقع كنيز أن يؤدى انحسار مشكلة الندرة إلى أن تنخفض ساعات العمل إلى ثلاث ساعات يوميا، كى يوزع العمل الذى مازال ضروريا على شخصين أو ثلاثة بدلا من أن يقوم به شخص واحد، فإذا بالذى حدث هو أن انحسار مشكلة الندرة صاحبته زيادة ساعات العمل بدلا من تخفيضها. ألا نشعر جميعا اليوم بضرورة المزيد من العمل، من أجل المزيد من الدخل، من أجل المزيد من الإنفاق الذى مازلنا نعتبره ضروريا؟ لقد قيل لنا إن التقدم التكنولوجى سوف يتيح لنا زيادة ساعات الفراغ، فهل حدث هذا حقا؟ أم أننا قررنا، لسبب أو آخر، أن أفضل استخدام لأوقات الفراغ هو المزيد من العمل لكى نحصل على المزيد من الدخل لكى نحقق المزيد من الاستهلاك؟ كان المفترض أن زيادة وقت الفراغ تعنى أن يقوى شعور الانسان بالحرية (إذ أليس هذا هو بالضبط معنى وقت الفراغ، أى الوقت الذى تملك فيه الحرية فى أن تفعل ما تشاء؟) فإذا بالذى يحدث هو العكس: أى أن يصحب زيادة وقت الفراغ شعور بأننا نحتاج إلى مزيد من الوقت. فما تفسير ذلك؟.
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة