العراقيون يطربون للموسيقى منذ سومر وبابل، والقيثارة العراقية أشهر من نار على علم، وتعلمت منه الأمم الأخرى
عزفت الفنانة اللبنانية جويل على الكمان النشيد الوطني العراقي بمناسبة افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم في ملعب كربلاء الدولي، فأثيرت ضجة مفتعلة من قبل المتعصبين وقادة الأحزاب الدينية بأن ذلك يشكل خرقاً للمدينة المقدسة، لكن هذا لا يتفق عليه الثلاثين ألفا ممن حضروا حفل الافتتاح المذكور، وقد شنّفت أسماعهم بموسيقى راقية ومشهد حضاري، ويتباكى هؤلاء برفع لافتات مغرضة: لا تدنسوا قدسية المدينة باسم الرياضة والموسيقى والرقص!
إن عزف النشيد الوطني على بعد كيلومترات، ورقصة باليه ترمز لألوان العلم العراقي ليست إساءة لقدسية المدينة بأي شكل من الأشكال، لكن هذه التظاهرة الموسيقية خرجت على برامجهم في توجيه الشباب إلى الحزن واللطم وشق الرؤوس بالسيوف والسير على الأقدام إلى كربلاء، إنهم رأوا صورة أخرى لا تبهجهم بالمرة
هؤلاء المتعصبون يفهمون المقدسات على هواهم، وفي حقيقة الأمر أنهم لا يريدون للشباب العراقي أن يفرح أو يبتهج، وهم بذلك يواصلون منهجهم في الحزن والاكتئاب، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لأن ظهور امرأة "غير محتشمة" بأزياء عصرية لا يعجبهم، واعتبره تجاوزاً على المقدسات، لكنهم لم يحتجوا على اغتيال رمز من رموز كربلاء، وهو الروائي العراقي المعروف علاء مشذوب الذي تلقى ثلاث عشرة رصاصة لأنه انتقد الأوضاع السيئة لسكان مدينته من انعدام الماء والكهرباء والخدمات، وأراد لها أن تصبح مدينة حضارية ليس إلا.
أليس الإنسان مقدس في جميع الأديان؟ المقدسات لدينا في الإسلام هي مكة المكرمة وبيت الله الحرام والمدينة وقبر الرسول عليه الصلاة والسلام والقدس الشريف، ولا ضير من أن تكون أضرحة الأولياء مقدسة أيضاً، ولكن ما قامت به الفنانة جويل لا علاقة له بكل ما أطلقته ألسن السياسيين المتعصبين من تصريحات وفتاوى، لو كانوا يحترمون المكان المقدس لما كرسوا الفساد ودافعوا عنه، المدن مقدسة بكرامة البشر الذين يعيشون فيها وليس بشيء آخر، فالبطالة بين الشباب وعمل الصغار العراقيين في أسوأ الظروف واعتمادهم على القمامة في عيشهم، وانتشار المخدرات وغيرها كلها انتهاك للقدسية، وهؤلاء لم يجدوا في كل ذلك خرقاً للبقعة المقدسة إلا في موسيقى فنانة لبنانية متعاطفة مع قضايا العراق عزفت النشيد الوطني على آلة الكمان، وما الضير في ذلك؟ كل شعوب العالم تمارس فن الموسيقى، لكن ما أزعجهم هو المرأة المتحررة التي ظهرت على ملعب المدينة، ولم يطرأ على بالها أنها تفعل شيئاً سيئاً أبداً، لكن ما أثار حفيظتهم هو تفاعل الجمهور مع عازفة الكمان وأنغامها وحركاتها الفنية التي اعتبرها المتعصبون رقصاً، هو غير ذلك، لكنها الصورة التي لا يريد أن يراها هؤلاء المتعصبون.
العراقيون يطربون للموسيقى منذ سومر وبابل، والقيثارة العراقية أشهر من نار على علم، وتعلمت منها الأمم الأخرى، والشعب العراقي كان على الدوام مستنيراً ومتفتحاً على الثقافات الأخرى، لكن هؤلاء عازمون على إرجاع الشعب العراقي إلى البربرية، ونجحوا في ذلك، نظراً إلى نسبة الأمية الكبيرة في المجتمع حالياً، في حين أن العراق ودع الأميّة منذ سنوات طويلة بل قطع عقوداً في اتجاهه نحو الحضارة من خلال التوعية والتثقيف والتنوير، وإذا كان هؤلاء يدافعون عن المظلومية فإن الشعب العراقي الآن هو الأكثر مظلومية؛ لأنه يفتقد إلى أبسط شروط الحياة الإنسانية: البطالة، وانعدام الكهرباء والماء والمساكن والحقوق والتهجير. وهذه كلها مقدسات يجب توفيرها للناس؟ نسوا كل ذلك وجاءوا إلى فنانة لبنانية عزفت على آلة الكمان النشيد الوطني، يا للعقلية المهترئة التي تريد إعادة العراق إلى القرون الوسطى، ألم يحرّم الدواعش الموسيقى والتماثيل والفن؟ فما الفرق بينكم وبينهم إذاً؟ القرون الوسطى دقت أبواب العراق من خلال الخرافات والشعوذات والأوهام واللطم والبكاء بدل توجيههم نحو العلم والمعرفة والدين الأصيل، أين الوعود الانتخابية التي أطلقها القادة السياسيون؟ أليس خداع الناس انتهاكاً للمقدس؟
الموسيقى لا تتنافى مع القيم الدينية والاجتماعية أبداً، ولا هي جريمة ولا تخدش الحياء العام، ثلاثون ألف متفرج في ملعب كربلاء هتفوا للنشيد الوطني ولعازفة الكمان جويل، وكان مشهداً حضارياً استبشر به الناس، أملاً في إطلالة جديدة للعراق، لكن هؤلاء يريدون أن يعيدوا العجلة إلى الوراء، وها هو رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي ما يزال يتحكم في الواقع السياسي من خلال حزب الدعوة يطالب بإجراء تحقيق فوري في هذه "الجريمة الموسيقية" ومحاسبة المجلس البلدي والمشرفين على تنظيم الحفل لكن النتائج جاءت عكسية، فقد أطلقت دعوة محاسبة منظمي الحفل شهرة هذه العازفة عربياً وعالمياً، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام بالمعارضة التامة لمثل هذه الدعوات.
إن عزف النشيد الوطني على بعد كيلومترات، ورقصة باليه ترمز لألوان العلم العراقي ليست إساءة لقدسية المدينة بأي شكل من الأشكال، لكن هذه التظاهرة الموسيقية خرجت على برامجهم في توجيه الشباب إلى الحزن واللطم وشق الرؤوس بالسيوف والسير على الأقدام إلى كربلاء، إنهم رأوا صورة أخرى لا تبهجهم بالمرة، فالمدينة ليست كلها ضريحاً مقدساً كما قال أحد المستنيرين، وجميع مدن مقدسة بناسها وبشرها وكرامتها.
إنهم صدموا أن يفتح الشباب عيونهم على رفض التخريف والشعوذات واللصوصية وسرقة ثروات الشعب والفقر والفساد والإرهاب، فقد أخرجت هذه الموسيقى العراقيين من سراديب العتمة إلى النور، ولا علاقة لها بالإساءة إلى المقدسات التي باسمها يُراد إرهاب المواطن والمجتمع من خلال الضجة التي افتعلوها في افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم في ملعب كربلاء الدولي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة