في الحقيقة لم تُردع إيران رغم حربها مع العراق عن الولوج في شؤون البلدان العربية الداخلية بل اتخذت من ذلك ورقة هجومية.
العقل الإيراني السلطوي الباحث عن أمجاد التاريخ الفارسي لم يتغير مع مرور مئات السنين وتغير الظروف السياسية وحتى الجغرافية للدول الكبيرة والصغيرة في آن واحد.
عُقدة الحكم والتوسع في النفوذ هذه التي ترافق الجهاز الإيراني الحاكم وتلازمه على مرّ السنوات التي تلت وصول الخميني إلى سدة الحكم بعد إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 لم تكن في صالح الشعب الإيراني على الإطلاق، بل انعكست عليه سلبا من الناحية الاقتصادية والسياسية كذلك بسبب هدر أموال الإيرانيين من قبل حكومتهم على دعم حلفاء طهران في الخارج، وهذا ما قاد الشارع الإيراني للهتاف ضد من تعتبرهم السلطات الإيرانية الحالية دولا تحت سيطرتها سياسيا على الأقل كالعراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين.
ثمة إشارات إيجابية في المقابل من الدول العربية تجاه سوريا ليس آخرها مساعي البحرين لقيادة دور سياسي يعيد تفعيل المحور العربي للمساهمة في حل المسألة السورية وعدم ترك هذا البلد العربي للتدخلات الخارجية (إيران-تركيا-الدول الغربية) تقرر مصيره السياسي
في الحقيقة لم تُردع إيران رغم حربها مع العراق عن الولوج في شؤون البلدان العربية الداخلية، بل اتخذت من ذلك ورقة هجومية تخلخل فيها أمن واستقرار بلداننا، ساعة تجد فرصة لذلك مستخدمة أدوات لها في الدول التي تحظى بها بنفوذ كبير مثل لبنان عبر مليشيا حزب الله، والعراق من خلال سياسيين رهنوا قرارهم بيد المرشد الإيراني، واليمن بمجموعة انقلابية ارتمت طوعا بحضن الإيراني، أما القضية الفلسطينية فقد وضعت منها طهران عنوانا عريضا باستمرار صراخها أنّها ستحرر القدس من الإسرائيليين، بينما تحتل في الوقت ذاته الجزر الإماراتية وتستولي عنوة على دولة الأحواز العربية وتمارس سلطاتها أبشع الانتهاكات بحق العرب هناك .
فقط في سوريا الموضوع مختلف فالذي يعرف طبيعة النظام في هذا البلد يدرك تماما أنّه لا يمكن لدمشق تسليم رقبتها لـطهران وإن ادعت التنسيق الكامل معها، خاصة في الفترة الأخيرة، والتلويح بأنّها لن تفك ارتباطها معها وهو مطلب الدول العربية في إشارة لاستمرار عدم التوافق بين دمشق وشقيقاتها العربيات .
في مرور سريع على منهجية سياسة سوريا الخارجية زمن الرئيس السابق حافظ الأسد نجد أنّ إيران كانت ورقة بيد السوريين وليس العكس، وكان الأسد الأب يسخّرها لصالح سياسته سواء العربية القريبة أو حتى الخارجية، وهذا ما أعطى فترة حكمه نقاط قوة تمثلت بضرورة وجود سوريا كلاعب رئيسي في جميع القرارات المتعلقة بالدول العربية أو الصراع العربي الإسرائيلي والمشاركة في إعدادها، وهذا ما نتج عنه آنذاك تحالف سوري مصري سعودي مكّن العرب من تحقيق ثقل على المستويين الإقليمي والدولي .
في الواقع لم يقدم الأسد الأب العلاقة مع إيران على حساب قربه من السعودية مثلا أو مصر أو غيرهما من الدول العربية، باستثناء الموقف من الحرب العراقية الإيرانية فهو كان يدرك خطر هذا على منظومته السياسية، وهذا ما وقعت به سوريا الآن بسماحها لحكام إيران بالتحدث بفوقية وعنجهية لم يعتد عليها السوريون فيما مضى.
ثلاث عقبات تحول دون هيمنة إيران على سوريا هي:
الأولى، حاجة العرب لسوريا والعكس وهي علاقة عكسية متناسبة طردا، وعلى هذا الأساس بنى حافظ الأسد معالم سياسته الخارجية، فالرجل أدرك مبكرا أهمية البعد العربي لبلاده وأنّ ذلك أهم بكثير من التقرب أكثر لإيران وإن حاولت الأخيرة ذلك، لأنّ سوريا قلب العروبة ولها وزنها أمام الشعوب العربية قبل الحكام، لذلك لم يغامر كثيرا في المضي أبعد مع المشروع الإيراني، بل ترك دفة العلاقة متوازنة ومنه حصل على تأييد الدول العربية في الكثير من القرارات التي اتخذها، ومن ذلك التدخل في لبنان إبان الحرب الأهلية عام 1982 بإرسال سوريا قوات برية بتعداد 40,000 جندي مدعومة بغطاء جوي.
ليس هذا فحسب بل إن محادثات السلام بين السوريين والإسرائيليين التي عقدت الجولة الأولى منها عام 1991 بمؤتمر مدريد للسلام الذي لم يكتب له النجاح، وكذلك المباحثات بين دمشق وتل أبيب برعاية أنقرة عام 2008 لم تلق أيّ اعتراض عربي، وهذا يشي بعمق التنسيق العربي العربي آنذاك.
السبب الثاني، هو عدم وجود حاضنة أيديولوجية لإيران في سوريا بالشكل الكافي على عكس العراق ولبنان واليمن، إذ تعتمد طهران نهج اللعب على الوتر الطائفي من أجل تقوية نفوذها في هذه الدول وهذا ما كان لها بتنصيبها ذاتها مرجعية المسلمين الشيعة على وجه الأرض.
السبب الثالث، يعود إلى عدم قناعة السواد الأعظم من السوريين بالإسلام السياسي، ورفض المجتمع المتنوع هذه المشاريع الإسلامية في صورتها العابرة حدود الوطن إخوانية كانت أو إيرانية، لذلك تشكّل هذه النقطة حجر عثر كبيرا بوجه الطموحات الإيرانية بالسيطرة على ذهنية وفكر المواطن السوري، وإن كانت هناك بعض الاختراقات التي توصف بالآنية وليست أزلية.
في واقع الأمر وبعد سرد العقبات التي تعترض المشروع الإيراني في سوريا يمكن الإجابة بـ"لا" على سؤال فيما إذا كانت إيران بالفعل ابتلعت سوريا وسيطرت على قرارها وهذا ما تريد دمشق إيصال إشاراته إلى محيطها العربي عبر لهجة دبلوماسية وإعلامية أقل تشنجا عما كان في السنوات الماضية، ولا شكّ أن ثمة إشارات إيجابية في المقابل من الدول العربية تجاه سوريا ليس آخرها مساعي البحرين لقيادة دور سياسي يعيد تفعيل المحور العربي للمساهمة في حل المسألة السورية وعدم ترك هذا البلد العربي للتدخلات الخارجية (إيران-تركيا-الدول الغربية) تقرر مصيره السياسي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة