من «كان» إلى الحلم المؤجل.. كيف فشل «الإخوان» في صناعة الفن؟

عُرض فيلم «نسور الجمهورية» للمخرج السويدي المصري طارق صالح ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي 2025، وسط تساؤلات عن جدوى الفيلم ومعناه، لا سيما أن العمل لم يأتِ بما يليق بالسياق ولا بالمكان، ولا حتى بقضية سياسية تستحق المعالجة.
من «حادثة النيل هيلتون» إلى «ولد من الجنة»، بنى صالح صورة مخرجٍ معارض، جريء، غير موارب، لكنها صورة بدأ يخونها الخطاب، ثم الفن، وصولًا إلى «نسور الجمهورية» الذي جاء مثالًا حيًا على الارتباك السياسي والفني معًا.
فرنسا في مواجهة اختراق الإخوان.. من الرقابة إلى خنق التمويل
يروي الفيلم حكاية فنان شعبي مصري يُجبر على تجسيد رئيس مصري في فيلم دعائي. نية الهجاء السياسي واضحة، لكن التنفيذ غارق في السطحية والتسطيح. معظم طاقم التمثيل ليس مصريًا، حتى بطله فارس فارس، سويدي من أصل لبناني، يؤدي دور فنان مصري وسط لهجات مغتربة عن الشارع الذي يدّعي الفيلم تمثيله. الحوارات تبدو وكأنها كُتبت خصيصًا لإرضاء جمهور غربي لا وقت لديه لتفاصيل الداخل العربي، والمشاهد الكاريكاتورية التي يفترض بها السخرية السياسية تحولت إلى نُسخ باهتة من صور مشوهة، بلا رنين ولا أثر.
الأخطر من هذا كلّه أن الفيلم، من دون أن يقصد، ساهم في تلميع السلطة التي أراد نقدها. فالفوضى البصرية والاختزال المخل، والرمزيات المتهافتة، تجعل من الواقع المصري – الذي حاول الفيلم محاكاته – أقوى بكثير من هذا الخطاب المشوّش. وكأن الكاميرا حين تُنزع من الأرض التي تنتمي إليها، لا تنتج سوى صورة مزيّفة.
هكذا سقط «نسور الجمهورية» في فجوة مزدوجة: فشل في أن يكون هجاءً سياسيًا ذا معنى، كما فشل في أن يُقنع بأي جدارة سينمائية، لينضم إلى سلسلة من المحاولات التي ظنت أن مجرد الاقتراب من صورة السلطة كافٍ ليجعل العمل كبيرًا. لكنه، وعلى امتداد ساعتين، لم يُنتج سوى مزيد من الضباب حول جدوى الفن حين يُكتب من الخارج، وبعيدًا عن الناس.
مخاصمة الإخوان للفن
إذا كانت تجربة طارق صالح تمثل مأزق الفنّ المُهاجر الغريب عن مجتمعه، فإن مأزق جماعة «الإخوان المسلمون» أعمق: غياب الفنّ أصلًا، ثم الادّعاء بالرغبة في صناعته دون أدوات. الجماعة التي أطلقت لجانًا فنية بعد ثورة يناير/كانون الثاني في مصر، لم تنتج خلال عامين من حكمها سوى وعود، وتجارب فردية لا تكاد تلامس هامش الصناعة، ناهيك عن مضمونها الباهت.
لكن العلاقة بين الإخوان والفنّ ليست طارئة. حسن البنّا، مؤسّس الجماعة، قالها صراحةً: "إنّ الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع..."، بل أنشأ فرقًا مسرحية مثل «فرقة القاهرة»، وكتب شقيقه عبد الرحمن البنّا مسرحيات كـ«جميل بثينة» و«صلاح الدين منقذ فلسطين». لاقت هذه الأعمال نجاحًا وقتها، حتى قورنت بـ«مجنون ليلى» لأحمد شوقي.
شارك في هذه المسرحيات ممثلون صاروا لاحقًا نجومًا كبارًا، مثل محمود المليجي وعبد المنعم مدبولي. حتى أن البنّا استضاف أنور وجدي في مقر الجماعة لمناقشة مشروع مشترك، بينما شجع سيد قطب الفنان حسين صدقي على الاستمرار في تقديم أدوار ذات مضمون إسلامي، كما حدث في فيلم «الشيخ حسن».
لكن بعد اغتيال البنّا ودخول الجماعة النفق الناصري، توقفت الأنشطة الفنية، واقتصر النشاط على البقاء. لم تُنتج الجماعة أفلامًا ولا توسعت في المسرح، وأصبحت بعيدة عن الفن لعقود.
بعد ثورة يناير، بدا وكأن الباب فُتح من جديد. ظهرت «لجنة الدراما والفنّ» في الجماعة، وصرّح قياديون منهم محمد رمضان بأن المسرح المصري نشأ على أكتاف الإخوان. دعا القيادي محسن راضي إلى إنتاج مسلسل عن حسن البنّا، كردّ على مسلسل «الجماعة»، وتحدث عن فيلم ثوري "موضوعي" لا يسيّس الأحداث، قيل إن عبد العزيز مخيون ووجدي العربي سيشاركان فيه، إلى جانب شباب الجماعة.
لكن النوايا اصطدمت بالواقع. لم يُنتج أي من هذه الأعمال، وواجهت الجماعة اعتراضات من داخلها، خاصة من التيارات السلفية الرافضة أصلًا لفكرة الفن. وبينما أباح عبد الرحمن البرّ، مفتي الجماعة، إنتاج الأفلام إن خلت من المحرمات، بقي موقف الجماعة من ظهور المرأة غامضًا.
وحتى عندما أبدى منتجون مثل محمد العدل وأسرة السبكي استعدادهم للتعاون بشرط الاحتراف. حتى فنّانات مثل وفاء عامر وبسمة وداليا البحيري لم يغلقن الباب تمامًا، لكن لم تكتب السطور التالية من هذه الحوارات أصلًا.
محاولة لطمس الروح
ظنت جماعة الإخوان أنها قادرة على إعادة تشكيل الوجدان كما تُدير لجانها الإلكترونية، فاستهدفوا في نفس الوقت وزارة الثقافة المصرية، وبدأوا في إقصاء رموزها وتعيين الموالين لهم، كما حدث بتعيين مجدي عفيفي على رأس "أخبار الأدب" بدلاً من عبلة الرويني، ثم توالت الإقالات في دور الأوبرا وهيئة الكتاب وصندوق التنمية الثقافية.
واجه الفنانون والمثقفون هذه الموجة بمقاومة عنيدة، تُوّجت باعتصام وزارة الثقافة في يونيو 2013، بعد إقالة الدكتورة إيناس عبد الدايم من رئاسة دار الأوبرا. كانت محاولة أخونة الأوبرا في مصر بمثابة إعلان حرب على الوجدان ، فقوبلت بعصيان ثقافي شامل، رفض فيه الفنانون تقديم العروض، ورفعوا شعار "لا لطمس الهوية". لم يكن الصدام نقابيًا بل وجوديًا: بين مشروع حرّ يُقدّس الإبداع، وآخر مغلق يرى الفن خادمًا للدعوة.
ففشل الإخوان في هذه المعركة لأنهم لم يفهموا طبيعة الفن، ولم يدركوا أن الإبداع لا يُؤسر ولا يُلقّن. هم أبناء السراديب، يختنقون في العلن، ويخشون الأسئلة الحرة. أرادوا أدبًا يطيع، وفنًا يُروّج، وعقولًا تُصفّق، لكنهم اصطدموا بوجدان لا يقبل الأسر. المثقفون لم يحملوا سلاحًا، لكنهم انتصروا في معركة المعنى، وأثبتوا أن من يخاف من أغنية، لا يمكن أن يحكم أمة.
الإخراج بلا جمهور
على أرض الواقع، التجربة الوحيدة التي رأت النور كانت من نصيب عزّ الدين دويدار، مخرج ضعيف محسوب على الجماعة. أخرج فيلم «تقرير» (2013)، مدّته 45 دقيقة، يتناول الغضب من الفيلم المسيء للنبي محمد. الفيلم مُنع من العرض، فقيل إن الشركة غير مرخّصة، والطاقم غير تابع لنقابة السينمائيين.
لاحقًا، أخرج دويدار فيلمًا آخر بعنوان «365 يوم وبالعكس» (2017)، تناول فيه تضييق النظام على الصحافيين. عرض الفيلمين اقتصر على يوتيوب، ولم تتجاوز المشاهدات بضعة آلاف. لم يهتم الجمهور، ولم تدعمه أي مؤسسة، حتى من داخل الجماعة.
وفي النهاية اعترف دويدار نفسه بأن الحركات الإسلامية قصّرت في فهم الفن وصناعته. تحدّث عن ضعف التمويل، وغياب الكوادر، وغياب الخبرة الفنية، مؤكدًا أن الشعارات وحدها لا تنتج فنًا.
خلاصة الصورة: لا كاميرا ولا مشهد
على ضفتي الصراع، سواء جماعة الإخوان التي فشلت في إنتاج فنّ يعبر عنها، أو مخرج مثل طارق صالح الذي يختار كليشيهات مغتربة بدلًا من الحفر في الواقع، تبدو منظومة الفنّ الإخواني في المنطقة العربية محاصرة بشعاراتها. غارقة إما في المحافظة التي تعجز عن تقديم الصورة، أو في "المعارضة السياحية" التي لا تعرف الأرض.
في النهاية، لا فنّ بلا جمهور، ولا صورة بلا واقع. ومثلما سقط فيلم «نسور الجمهورية» في اختبار الفن، سقط مشروع «الإخوان» قبل أن يبدأ. والسبب، في الحالتين، أن الكاميرا حين تُمسك لأهداف حزبية أو شعاراتية، فإنها تفقد بصرها.. والبصيرة.