السياسة لا تعتدّ بالخطابات الرنانة والتصريحات النارية التي لطالما تكون صالحة للاستهلاك الداخلي مستهدفة الرأي العام الوطني.
أما الحقيقة فتكمن في إدراك القادة لخطورة المواقف وجدية التحركات الواقعية التي تنطلق من الأفعال على الأرض والعمل على تهيئة الأجواء لها، وهذا بالضبط ما يجعلُ "طهران" تراجع حساباتها بعد فترة من التوتر بينها وبين الولايات المتحدة، لا سيّما في العراق وإقدام المليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني على تنفيذ عدّة عمليات تستهدف المصالح الأمريكية في بغداد، الأمر الذي جعل إيران ترسل اللواء "إسماعيل قاآني" قائد فيلق القدس المسؤول عن المليشيات المدعومة إيرانيّاً خارج البلاد إلى العراق لإعطاء الأوامر لأذرعها بالتهدئة، في الواقع ما دفع إيران إلى مثل هذه الخطوة عدة عوامل، منها:
أولاً: الوضع الداخلي الإيراني: تعيش إيران اليوم أكثر المراحل سوءاً وعلى كافّة الأصعدة الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية، فهي تعاني من ضغوطاتٍ قاسيةٍ جرّاء العقوبات الصارمة المفروضة عليها من قِبَلِ الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنوات، بالإضافة إلى استفحال جائحة كورونا وخروجها عن السيطرة في البلاد كلها، كما أنّ الحراك الشعبي الإيراني المناهض لحكم المرشد وسياسة النظام الإيراني مازال قائماً وإنْ بوتيرةٍ هادئةٍ جرّاء الممارسات القمعية والتعتيم الإيراني، إلا أنه قابلٌ للانفجار في أية لحظةٍ مناسبةٍ، وفوق هذا وذاك فإنّ النفوذ الإيراني اليوم يتعّرض لأشرس التحديات، فالحوثي في اليمن يئنُّ تحت وقع الضربات على يد التحالف العربي، والمليشيات الموالية لها في سوريا ترزح تحت ثقل القصف الإسرائيلي الذي امتدّ ليصل أقصى الشمال الشرقي بوصوله إلى دير الزور وعدم اقتصاره على الجنوب ومحيط العاصمة دمشق، أما في العراق فالسياسة الأمنية لحكومة الكاظمي تعمل على تقليم أظافر ميليشيات الحشد، الأمر الذي أنهك إيران في ظل الوضع الاقتصادي المزري وعجزها عن إدارة الأزمة الداخلية فضلاً عن قدرتها على تمويل المليشيات المنهارة في الخارج.
ثانياً: التقارب العراقي العربي: كانت إيران ومازالت تراهن على فصل العراق عن محيطه العربي ليتسنّى لها الاستفراد به سياسياً وعسكرياً، بما يضمن لها بقاء العراق حديقةً خلفيةً تصدّر إليه أزماتها الداخلية والخارجية، واستغلاله كورقةٍ سياسيّةٍ مع محيطها العربي، ولكنّ الأمر اليوم بات وكأنه مختلفٌ، فالشعب العراقي اليوم منتفضٌ في وجه هذه السياسة التي دمرته وحولته إلى أداةٍ بيد ثِلّةٍ من السياسيين التابعين لإيران، فغدا العراق مجرّد لعبةٍ بيد "طهران" وساحة حربٍ لها، وأمام هذا الضغط الشعبي تصدّرت حكومة "مصطفى الكاظمي" المشهد السياسي الذي تعاطت معه بعدّة سياساتٍ دبلوماسية تهدف إلى التقارب العراقي العربي والتأكيد على هويته، وأمنية تسعى إلى تحجيم الميليشيات وإخضاعها للمؤسسة العسكرية العراقية، السياسة التي أثمرت اليوم انفتاحاً عراقياً عربياً نتج عنها افتتاح معبر "عرعر" الحدودي مع المملكة العربية السعودية، وهو المعبر الذي ظل مغلقاً لأكثر من ثلاثة عقودٍ من الزمن، واللافت في الأمر والمقلق لإيران أنّ ذلك لم يكن سياسةً حكوميةً عراقيةً فحسب بل إنّ الشعب العراقي استقبل هذا الأمر بالاحتفال والفرحة والتفاؤل والدعوة إلى تمكين العلاقات العراقية السعودية والعربية عموماً، مما جعل إيران تدرك بأنّ اليوم ليس كالغد فيما يخصّ العلاقات العراقية العربية والدور العربي على الساحة العراقية.
ثالثاً: السياسة الأمريكية: من المعلوم أنّ أزمة الانتخابات الرئاسية الأمريكية مازالت قائمةً في ظلّ تمسّك الرئيس "دونالد ترامب" بأحقيته في كسب السباق الانتخابي، وانتظار ما تفضي إليه نتائج الطعون المقدمة من قبل الجمهوريين في النتائج، ولكن على الرغم من ذلك وإنْ صحّت نتائج الانتخابات وأعلن "جو بايدن" رئيساً للولايات المتحدة، فإنّ ترامب أمامه ما يزيد على الشهرين قبل أنْ يغادر منصب الرئيس، وهي فترة كافية لأنْ يتخذ بها ترامب أي قرارٍ بصفته رئيساً للولايات المتحدة، وهو المعروف بحنقه ورفضه القاطع لسياسات إيران وممارساتها، على عكس الديمقراطيين الذين كانوا متساهلين مع طهران وسعيها الدائم لاستغلال اللين الأمريكي لتمرير مشاريعها في المنطقة العربية، وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإنّ الرئيس الأمريكي "ترامب" عندما يرى أنه لا بدّ من ترك منصب الرئيس وتسليمه لمنافسه "بايدن" لم يبقَ لديه حينها ما يخسره سياسياً في الداخل الأمريكي، فليس من المستبعد أنْ يتذرع بأي تحركٍ إيراني لضرب إيران تحقيقاً لهدفين يحبذهما ترامب، هما ضرب إيران وقطع الطريق أمام الإدارة الديمقراطية لإعادة التفاوض والاتفاق النووي الإيراني من جهة وتسليم ملفاتٍ معقدة تربك منافسه وتصعّب من مهمته الإدارية كرئيس للولايات المتحدة من جهةٍ ثانيةٍ.
كل هذه المعطيات تجعل من إيران اليوم أمام واقعٍ خطيرٍ لا يمكنها الالتفاف عليه بالتصريحات النارية والخطابات الجوفاء، لذلك وانطلاقاً من إدراكها لخطورة الموقف وجديته تجدها اليوم تتبع سياسة الهروب إلى الأمام وتبادر بالتهدئة وخفض وتيرة التصعيد بدعوة ميليشياتها في العراق إلى ضبط النفس، والدليل على جديتها في ذلك أنها لم تكتف بالتوجيه الخطابي أو الاتصال، بل أرسلت جنرالها "قاآني" لإيصال الرسالة مباشرة وبنفسه لأذرعها في بغداد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة