لا يكف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إحداث صدمات غير متوقعة في الداخل الأمريكي وبالقدر نفسه حول العالم
لا يكف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن إحداث صدمات غير متوقعة في الداخل الأمريكي وبالقدر نفسه حول العالم، إلى الدرجة التي أدت إلى ارتباك في إدارته، وليس سرا القول إن هناك شقاقاً واسعاً بين البيت الأبيض من جهة والمؤسسة العسكرية المتمثلة في البنتاجون "وزارة الدفاع" الأمريكية من جهة ثانية بسبب قرار الانسحاب من سوريا.
هل يعقل أن ينسحب الإيرانيون من سوريا وهم على رمية حجر من لبنان وأي تقارير استخبارية يمكنها أن تغفل استعدادات الحزب للمواجهات المقبلة، عطفاً على دوره المعطل عن تشكيل حكومة في الداخل اللبناني؟
أحدث القرار المتقدم هزة كبرى لدى الجنرالات؛ لأنهم يعلمون أن قرارا كهذا يعد هدية على طبق من ذهب لرجالات قاسم سليماني من الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس عامة، كي يسرحوا ويمرحوا في الداخل السوري، كما هو ومن أسف شديد الوضع في العراق الذي فقد سيادته وقراره المستقل لصالح آيات الله مرة وإلى ما شاء الله.
من جديد يصدمنا ترامب قبل ساعات بالقول إن أمريكا هزمت في سوريا وإنه لم يتبق فيها سوى الرمال والموت وإنه لا يريد أن يبقى هناك إلى الأبد حتى وإن لم يحدد مدى زمنيا للانسحاب بقواته التي لا تزيد على ألفي جندي.
كان مخطط ترامب هو الانسحاب السريع، لكن من الواضح جدا أن جماعات الضغط المتصلة بالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي من جهة، والأخرى الداعمة لإسرائيل من ناحية ثانية قد أبطأت من تحركات ترامب على الأرض، لا سيما أن الجميع يدرك كارثية المشهد إن مضى على مثل هذا النهج المتعجل بسرعة، وأن الطرف الوحيد المنتصر في كل الأحوال هو إيران ورجالاتها.
لاحقا كان ترامب يخبرنا بحديث ينافي ويجافي الصحة بالمرة عن إيران التي تغيرت وبدأت بسحب رجالها من سوريا واليمن، ونحن نتساءل بدورنا عن أي شيء يتحدث الرئيس الأمريكي؟
خلال اجتماع له بعد إجازات الأعياد مع أركان إدارته، قال ترامب معلقا على قرار انسحابه من سوريا: "باتت إيران دولة مختلفة اليوم، وهي تسحب رجالها من سوريا". وأردف قائلا: "الحق يجب أن يقال، هم يرغبون في تنفيذ كل ما كانوا يفكرون فيه في سوريا، ولكنهم يضطرون لسحب رجالهم من هناك. اليوم نراهم يسحبون رجالهم من اليمن، لأن هدفهم الوحيد اليوم، بات البقاء على قيد الحياة".
هل هذا حديث للرئيس الأمريكي في الصحو أم أنه أضغاث أحلام؟
الكارثة الأبعد في حديث ترامب قوله: "إيران كانت تهدف إلى ضم الجميع تحت راياتها وتدمير إسرائيل خلال هذه العملية، لكنها باتت اليوم بلدا آخر.. لديهم تمرد كل أسبوع في كل دولة، وسأكون سعيدا بالتفاوض مع إيران ".
أي تغيير هذا وأي انسحاب تخيله ترامب؟ وهل هو حديث الغافل عما يجري على أرض الواقع؟
للمرة الأولى بعد الألف نذكر بأن الرئيس ترامب صانع صفقات عقارية، ولا دالة له على التاريخ السياسي بما فيه من هويات الأمم وتاريخ الشعوب، فلا يعرف على سبيل المثال القدرات الحقيقية للمماطلة وتسويف الوقت عند الإيرانيين، ولا معرفة مسبقة له بفكر "التقية" عند الحاجة والعوز أو الخوف والانكسار، ولا يدري أحلام المهدي المنتظر الذي لا بد له من أن يعود يوما ليحكم العالم، الأمر الدوجمائي العقدي، الذي معه لا تتغير إيران لا في الحال ولا في الاستقبال.
لا يظن المرء أن الأجهزة الاستخبارية الأمريكية قد زودت ترامب بمعلومات فائقة السرية عن الانسحاب الإيراني من الدول التي تعيث فيها رجالات الحرس الثوري فسادا، وحتى لو لم توجد عناصر إيرانية بذاتها فإن وكلاء الشر وعملاء الإثم داخل دول بعينها يلعبون دور الخنجر في الخاصرة، وعليه فلا حاجة لظهور مباشر.
وعلى الرغم من ذلك فإن الأصابع الإيرانية المباشرة أو المختبئة لا تزال تجعل من اليمن -على سبيل المثال- ميدانا لإفشال كل محاولة لإصلاح ذات البين بين اليمنيين أنفسهم، وحتى المحاولة الأخيرة التي حاولت السويد فيها وقف نزيف الدم الداخلي تكاد تبوء بالفشل من جراء تحركات الحوثيين الذين تتحكم فيهم إيران بالخيوط الرقيقة من بُعد ومن قرب، وتجعل منهم أداة التهديد الأسوأ تجاه البحر الأحمر وما يشكله من أهمية للأمن القومي العربي.
والثابت أن الرئيس ترامب إذا ارتحل إلى العراق سيجد رجالات خامنئي وروحاني وقاسمي يشطرون دولة الرشيد من داخلها، ولهذا لم يستطع العراقيون حتى الساعة الاتفاق على حكومة عراقية موحدة، لأن القرار العراقي الحقيقي ليس طرفهم، بل طرف الإيرانيين، أما عروبة العراق وقوميته فقل عليها السلام منذ زمن بعيد، فهل سينسحب ترامب عما قريب من العراق بنفس سرعة انسحابه من سوريا، سيما أن رمال العراق أكثر كثافة وأغزر وقعا، فيما الموت عند العراقيين أضحى عادة، وها هو سليماني يضع مخططاته لعراق ما بعد أمريكا؟
حين يتحدث ترامب عن الانسحاب الأمريكي من سوريا حكما يدرك الخبراء من الاستراتيجيين الثقات أن الرجل يفتح على هذا النحو ممرا واسعا وممهدا للإيرانيين للوصول إلى لبنان، وهناك حزب الله في الانتظار لمعركته الفاصلة والحاسمة مع إسرائيل، التي لن يقوى على القيام بها حكما من دون المدد اللوجستي الإيراني عسكريا وماليا، فهل يعقل أن ينسحب الإيرانيون من سوريا وهم على رمية حجر من لبنان وأي تقارير استخبارية يمكنها أن تغفل استعدادات الحزب للمواجهات القادمة، عطفا على دوره المعطل عن تشكيل حكومة في الداخل اللبناني؟
قبل أن ينتهي ديسمبر/كانون الأول الماضي كان معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى يصدر قراءة مهمة تحمل تحذيرا خطيرا، وعنوانها "مشروع إيران للصواريخ الدقيقة ينتقل إلى لبنان".
في هذا السياق نشير إلى أن الرئيس ترامب ربما لم يسمع بالاجتماع الذي عقد في 3 ديسمبر الماضي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" ووزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" في بروكسيل، بهدف مناقشة التهديد المتنامي من اكتساب حزب الله قدرات صاروخية دقيقة التوجيه داخل لبنان، وبدا واضحا أن نتنياهو قد أخبر الأمريكيين بضرورة توجيه إنذار حاسم وحازم للسلطات اللبنانية بأن إسرائيل ستتخذ إجراءات خاصة بها إذا فشلت هذه السلطات في معالجة التهديد، والمقطوع به أن مشروعاً صاروخياً كهذا لا ولن يقوم إلا على أعناق الإيرانيين ومن خلالهم، وعليه أي انسحاب وأي تغيير يتحدث عنه الرئيس ترامب؟
لا يمكن أن يكون الأمر حديث سخرية من الإيرانيين، فالمشهد لا يحتمل أي تهاون، فنظرة سريعة على الموازنات الإيرانية العسكرية الأخيرة تبين لنا أن الأسوأ في الطريق إقليميا وعالميا من جراء رجالات الحرس الثوري الإيراني اليد الطولى للتدخل.
ربما لم يطلع الرئيس ترامب على الأرقام المالية الجديدة لموازنة إيران 2019، حيث تم رفع موازنة الحرس الثوري بنسبة 25% عن العام الماضي، من 4.8 مليار إلى 6 مليارات، في الوقت الذي تم فيه تخفيض موازنة الدفاع إلى النصف.
هل تعني تلك الأرقام شيئا ما؟
إن كان لها مدلول بعينه فهو أن إيران تتهيأ لمرحلة حاسمة من التدخلات في الإقليم وفي العالم الواسع لتحقيق أغراضها التوسعية، أو استعداداً للقارعة الآتية ولا شك، وفي الحالتين تبقى قراءات الرئيس ترامب عن إيران المتغيرة قليلة الحظ ويجانبها الصواب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة