ربما لا يوجد بلد في العالم يضاهي العراق في عدد العطل، الرسمية وغير الرسمية، والذي يتجاوز نصف أيام السنة
ربما لا يوجد بلد في العالم يضاهي العراق في عدد العطل، الرسمية وغير الرسمية، والذي يتجاوز نصف أيام السنة. وإن كانت العطل الرسمية معروفة ويمكن التخطيط لها، فإن العطل غير الرسمية تتسبب في إحداث فوضى عارمة وتعرقل الحياة كلياً في معظم المدن العراقية، ويضطر كثر لمغادرة البلد أثناءها تجنباً للأذى الذي تسبّبه لهم، إذ يستمر بعضها لأكثر من أسبوع. وهذه «العطل» مرتبطة بتقاليد بالية وأوهام لا علاقة لها بالدين ولا تمت إلى العصر بصلة، بل أصبحت جزءاً من تراث ضار بمصلحة المجتمع، خصوصاً أن بعضها يرتبط بأحداث تاريخية مضت قبل ألف عام، ولا يمكن أن تستمر في كل الأزمان والعصور وتحت كل الظروف. أصبح العمال والموظفون، ومعهم المسؤولون الكبار، الذين يحابونهم لأسباب سياسية، لا يكترثون للدوام الرسمي ولا يهمّهم أداء الدولة أو مستقبلها، فكل ينظر إلى هذه المسألة من زاويته الخاصة المجردة من المصلحة العامة. وكثيراً ما تلقي الشركات المتلكئة في إنجاز أعمالها باللائمة على كثرة العطل غير الرسمية، ويقول مديروها إن العمال يتغيبون عن العمل أثناء المواسم الدينية في محرم وصفر وشعبان ورمضان، ولا نستطيع أن نلومهم أو نعاقبهم لأن ذلك يؤثر في سمعة الشركة، وقد يعيق احتمالات حصولها على عقود في المستقبل، بل قد يعرض مقارها وأفرادها للاعتداء كما حصل مع شركة بريطانية قبل أعوام عدة. المسألة لم تعد ترفاً فكرياً، بل أصبحت مشكلة معرقلة لعمل الدولة وضارة بجميع العراقيين، خصوصاً أولئك الذين يمارسونها، لأنها تضعف الدولة وتعيق أداءها وظائفها التي تخدمهم. يجب أن تكون لدى الحكومة الجرأة في فرض القانون على الجميع ومعاقبة غير الملتزمين به. ويجب عليها أن تجري حواراً جاداً مع رجال الدين المؤثرين كي يكونوا معها في بناء دولة قوية قائمة على العمل ومكافأة الجادين والمثابرين، وإبعاد المتسيبين عن مواقع العمل والمسؤولية مهما كانت الذرائع التي يتحججون بها.
ويناقش البرلمان العراقي حالياً، قانون العطل الرسمية، وتقول النائب سروة عبدالواحد أن عدد العطل الرسمية المقترحة في القانون هو 75 يوماً! وإذا ما أضيفت إليها 104 أيام في السنة هي مجموع أيام عطلة نهاية الأسبوع (الجمعة والسبت)، يصبح عدد العطل 179 يوماً، أي نصف أيام السنة تقريباً. وإذا ما حسبنا أن الأيام التي يعطل فيها الدوام في شكل غير رسمي أثناء المناسبات الدينية الشيعية في محرم وصفر وشعبان ورمضان ومناسبات وفيات وولادات والأئمة، والعطل المحلية التي اقترحها بعض مجالس المحافظات، فإن عدد العطل يقترب من ثلثي أيام السنة، وهذه ليست أقل من كارثة اقتصادية واجتماعية للعراق. ويتوقف العمل في كل المؤسسات في العراق أثناء المواسم الدينية بسبب غياب الموظفين والعمال وإغلاق الطرق العامة، ولا يستطيع المديرون أن يعاقبوا المتغيبين لأنهم يخشون الاتهام بمعاداة الدين والطائفة، خصوصاً إذا كانوا من طائفة أخرى. التمتع بالعطل غير الرسمية هو سرقة واضحة للمال العام، فكيف يسمح المؤمن لنفسه بأن يسرق أموال الآخرين بذريعة ممارسة الشعائر؟
الدولة العصرية تحتاج أن يضطلع مواطنوها بعمل دؤوب طوال العام، والدول المتطورة تتجه لأن تكون الخدمات الأساسية مستمرة على مدى 24 ساعة، بل حتى خدمات التسوق أصبحت متاحة طول الوقت ولا تغلق المحال أبوابها إلا بضع ساعات في عطلة نهاية الأسبوع. والدول المتقدمة اقتصادياً هي التي تقل فيها العطل العامة أو إجازات الموظفين والعمال. وتتميز إجازات الموظفين في الولايات المتحدة واليابان بقصرها، إذ لا يتعدى بعضها 15 يوماً في العام، بينما العطل العامة قليلة جداً وتشمل العيد الوطني ورأس السنة وعيدَي الميلاد (يومان) والفصح (يومان)، وبعضها يقع في مواسم يصعب فيها العمل بسبب شدة البرد. أما العراق، ومع هذا الكم الهائل من العطل الرسمية وغير الرسمية، الذي أخلّ بالاقتصاد والأمن والتعليم والصحة والسياحة وباقي القطاعات المهمة، فما زال يفتقر إلى وجود عيد وطني للدولة، بل ويفتقر إلى علم للدولة، لأن العلم الحالي موقت وفق قانونه. الخلاف ما زال قائماً بين (المكونات) حول اختيار اليوم الذي سيكون عيداً وطنياً للعراق، فهل يجب أن يكون يوم إعلان قيام المملكة العراقية في 23 آب (أغسطس) عام 1921 أم يوم دخول العراق في عصبة الأمم واستقلاله عن بريطانيا في 3 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1932، أم يوم إعلان الجمهورية العراقية في 14 تموز (يونيو) 1958. وكل هذه الأيام غير متفق عليها، وقد لا تكون ملائمة أو مقبولة لدى الجميع. ويسعى السياسيون الى الاتفاق على اختيار العيد الوطني من دون أخذ رأي النخبة الثقافية العراقية التي يجب أن يكون لها دور أساسي في مثل هذه المسائل. العراق لم يتأسس في عام 1921 أو 1932 أو 1958، بل هو قائم منذ آلاف السنين، واليوم الوطني العراقي يجب أن يكون ذا معنى لكل العراقيين وليس فقط لمجموعة طائفية أو دينية أو عرقية معينة. يجب أن يناط اختيار اليوم الوطني بلجنة من الخبراء في التاريخ والثقافة العراقييْن كي تحدد مثل هذا اليوم، ثم يأتي دور ممثلي الشعب لإقراره. لا يحق لأعضاء في مجلس النواب، وإن شكلوا غالبية، أن يقرروا أمراً كهذا نيابة عن كل العراقيين، مثلما لا يحق لهم وضع دستور للبلاد من دون موافقة الشعب.
إن كان المسؤولون العراقيون جادين في بناء دولة قوية ويريدون فعلاً خدمة مصلحة الناس، فإن عليهم أن يتصدوا بقوة لظاهرة كثرة العطل غير الرسمية، وهي حقاً معيبة، إضافة إلى كونها ضارة وتسير بالعراق نحو الهاوية. العراق في حاجة إلى تقليص العطل الرسمية ومنع العطل غير الرسمية بقوة القانون. إن كانت عائدات النفط قد امتصّت الأضرار الاقتصادية لكثرة العطل سابقاً، فلم يعد في الإمكان الاعتماد على النفط لتسيير عجلة الاقتصاد. الدول تبنى بالعمل الدؤوب وتكريس أهل العلم والخبرة والقدرة كل ما لديهم من وقت وطاقة للبناء والإعمار والتنمية، ولا يمكن أي بلد أن يتطور ويبني حضارة متميزة إن كانت الأيدي العاملة فيه معطلة أكثر أيام السنة.
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة