حدثان هامان كانا كفيلين برفع الغطاء عن مكنونات الواقع العراقي القائم بكل تداخلاته وصراعاته وتحدياته.
الأول كان مجريات الانتخابات البرلمانية منذ لحظة الاستعداد الأولى لها من قبل الأحزاب والتيارات والشخصيات، مرورا بالحملات الانتخابية وعملية الاقتراع، وصولا إلى نتائجها وما صاحبها من تجاوز حدود الرأي المعارض أو الناقد أو الرافض لها حين لامس تخوم نسفها تحت التهديد والوعيد من قبل مَن هزمهم ناخبهم وليس خصمهم أو عدوهم.
الحدث الثاني لا ينفصل عن الأول من حيث النتيجة والهدف، وبدا أنه حلقة في مسلسل التراجيديا السياسية العراقية المتجددة في كل حقبة زمنية من خلال لاعبين جدد في كل مرة، أي محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته، مصطفى الكاظمي، بطائرات مسيّرة استهدفت منزله في المنطقة الخضراء.
اللافت أنه في كلا الحدثين خرج الطرف عينه مشككا، مرة بما أفرزته صناديق الاقتراع من أصوات ونتائج، وأخرى بحقيقة هجوم المسيّرات على منزل "الكاظمي".. تداخُلُ الحدثين تفسره النتائج التي ترتبت على كل منهما وردود الفعل والمواقف التي أماطت اللثام عن مخزون التحدي المضمر الذي أظهرته الأطراف المتضررة بنتيجة الحدثين.. تلك المتضررة من جراء هزيمتها في الانتخابات، وتلك المتضررة من فشل اغتيال "الكاظمي".
رسمت الانتخابات العراقية بمجرياتها ونتائجها مسارات مغايرة أمام العراقيين عما سبقها منذ عام 2003.
للوهلة الأولى تبدو السجالات الطاغية على المشهد الحزبي والسياسي العراقي أقرب إلى فتائل تفجير معدة للإطاحة بما تحقق في هذه العملية.. انقلاب مزاج الناخب العراقي ليس وليد المصادفة.. إنه صرخة وعي بوجه الاستلاب الذي يتعرض له على يد "الذهنية المليشياوية" التي تدير كثيرا من أموره، وتحدد على هواها مصيره وخطوط مستقبله بما يتفق مع ولاءاتها ومصالحها بعيدا عن الاستحقاق الوطني والحقوقي للإنسان العراقي.
أدار "الكاظمي" اللعبة في الداخل بمهارة العارف لما يريد.. تَفكَّكَ من أسر المليشيات صريحة الهوية والهوى، ومن المليشيات المقنّعة ببراقع الحداثة والمدنية السياسية والفكرية التي تتقاطع في جوهرها ونهجها مع سابقتها في الإحساس بأنهما أكبر من دولة وأوسع من وطن.. لعب دور المحرّض في إحياء نزعة الإنسان العراقي الطامح لإثبات ذاته.. حافظ على مسافة مدروسة ومحسوبة مع الكتل والتيارات البرلمانية والحزبية.. كظم غيظه في أكثر من تحدٍ أمني وشخصي له من قبل المليشيات المسلحة الخارجة عن عباءة الدولة العراقية.. التقط جميع الفرص المرتبطة بالسلم الاجتماعي وعزز فحواها وبث رسائله ممارسة وعملا في أكثر من ميدان.. أهمل عن عمد حيثيات مُخْتَلَفٍ عليها بين هذا الطرف أو ذاك.. وفّر ما استطاع من مستلزمات لإجراء الانتخابات البرلمانية مع معرفته الدقيقة بما يحيطها من تحديات ومخاطر على السلم الأهلي، بعد سلسلة الهزات التي عصفت بعدد من زوايا هذا السلم بتدبير وتخطيط الذهنية المليشياوية وتنفيذ أذرعها.
الانفتاح العراقي في البُعدين العربي والدولي أعطى الانطباع بأن شرط عافية البلاد والعباد لا يتوقف عند التقوقع على مشكلات الداخل والغرق فيها، ولا عند معالجة أمراضه، المزمنة منها والمستجدة وحسب، بل يتطلب فعلا وسلوكا لاستعادة حضور الدولة العراقية على المسرحين إياهما، وتفعيل المبادرات التي تؤدي إلى المشاركة في معالجة القضايا وصيانة السلم والأمن العربي والإقليمي والدولي، وتظهير مقدراتها وإمكانياتها السياسية والاقتصادية ضمن عملية متوازنة تحفظ مصالح جميع الأطراف استنادا إلى معيارين، الأول يقوم على التعامل مع العراق كدولة ذات سيادة، حرة في خياراتها واختياراتها وبما يخدم مصالحها العامة، والاستفادة من التفاعل مع الخارج في رفد مؤسسات الداخل والمواطن العراقي بمزيد من الثبات وسعة الأفق لمعالجة قضاياه بناء على مقتضيات مصلحة الوطن والمواطن العراقي واحترام مصالح الآخرين، وتحرير وعيه من هيمنة المليشيا.. والثاني هدم التصور، الذي تسعى الذهنية المليشياوية لتكريسه بأن حال العراق وأوضاعه، حاضره ومستقبله، حكر على فئة معينة أو تيارات وقوى تعمل لمصلحة رُعاتها الخارجيين على حساب هيبة وسيادة العراق.
بين نتائج الانتخابات وفشل محاولة الاغتيال نجاح مشترك، إجراء الانتخابات ونتائجها لبنة في مدماك البناء المنشود لعراق متحرر من أسر المليشيا رغم المد والجزر، الذي يحكم المشهد الراهن، وفشل محاولة الاغتيال تعزيزٌ لخيار التصدي لذهنية المليشيا ومخططاتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة