علاقة رجال الدين بوسائل الإعلام علاقة عجيبة غريبة، لن تجد لها وصفاً ولا تشخيصاً إلا عند جمال الدين بن نباتة المصري.
علاقة رجال الدين بوسائل الإعلام علاقة عجيبة غريبة، لن تجد لها وصفاً ولا تشخيصاً إلا عند جمال الدين بن نباتة المصري المتوفى 768 هجرية/ 1366 ميلادية، في قوله: "مسألة الدور غدت.. بيني وبين من أحبّ/لولا مشيبي ما جفت.. لولا جفاها لم أشب". فقد احتار دليل "ابن نباتة" في علاقته بمحبوبته، فلم يعد يعرف هل تركته وجفته لأن شعره قد شاب، أم أن شعره قد شاب لأنها هجرته، وأنكرت حبه؟ هكذا هو حال الإعلام مع الغالب الأعم من رجال الدين، فلم نعد نعرف أيهما كان بلاءً وابتلاءً للآخر؟
في الحقيقة يمكن تحديد علاقة الغالبية العظمى من رجال الدين بالإعلام في ثلاث مراحل، أو ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة، هي: أولا: مرحلة الرفض والتكفير والتبديع؛ فلم تظهر وسيلة إعلامية على مر تاريخ وسائل الإعلام، إلا وأنكرها الغالب الأعم من رجال الدين، خصوصاً أولئك الذين يدعون القدسية، والمرجعية، والتمسك بما كان عليه السلف. ناصب هؤلاء الإعلام العداء، وكفروا وفسقوا وبدعوا كل من عمل فيه، أو تعامل معه، أو استفاد منه. حدث هذا مع الطباعة والصحافة والإذاعة والتلفزيون، والإنترنت، وجميع الوسائل.
لعل ما نشاهده اليوم في ثورة شباب العراق ولبنان على كل الرموز الدينية والطائفية، وعدم إصغاء الشباب لحيل المرجعية الدينية التي تحاول استدراجهم للوقوع في مصيدة الأحزاب السياسية التي خلطت الدين بالفساد بالانتهازية السياسية، كل ذلك هو نتيجة لمرحلة السقوط التي كشف فيها الإعلام مستور رجال الدين.
ثانياً: مرحلة التوظيف لبناء أمجاد شخصية، أو طائفية، أو حزبية، أو مذهبية. وهنا انطلق العديد من الدعاة والوعاظ والحزبيين من السنة والشيعة لتوظيف الإعلام بكل وسائله لحمل أفكارهم، وتحيزاتهم، وحزبياتهم، وخرافاتهم، وفتنهم للجمهور الواسع العريض الذي لم يكن يعرفهم، أو يسمع عنهم، وكان "الكاسيت" هو الوسيلة الأولى، ولأنه كان يباع فقد حول هؤلاء الدراويش الذين كان وضعهم الاجتماعي في ذيل مهن المجتمع، إلى طبقة من فاحشي الثراء الذين يعيشون عيشة الملوك من عوائد "اقتصاديات الدعوة"، فتحول الواحد منهم إلى نجم كبير، يعيش في القصور، ويحول النساء إلى جوارٍ من خلال تعدد الزوجات، وتغيير الزوجات مثل تغيير السيارات أو أثاث البيوت.
وهنا تحول شيطان الإعلام والتكنولوجيا الكافرة إلى ملاك يحمل الدعوة، ويجلب الرزق، ويغير الحال من حال إلى حال، وتحولت المواقف، وتم ابتلاع الفتاوى السابقة، أو تأويلها، أو إعادة تفسيرها، وللسحرة والحواة أساليب ماهرة في تغيير الجلود أكثر مهارة من الحرباء.
ثالثاً: مرحلة كشف المستور، وفيها كان انتقام آلة الإعلام من الذين حاربوها، ثم استغلوها بصورة انتهازية، فكان الانتقام الأشد والأقسى، فقد استدرج الإعلام هؤلاء من خلال غريزة عشق الشهرة، والنجومية، والتعلق بالأضواء، فأخرج كل ما في نفوسهم، وللأسف كان السيئ فيها أكثر من الصالح، والمفسد أكثر من المصلح، وكانت الفتنة أكثر من الإصلاح، والعنف والتدمير أكثر من الطمأنينة والسلام.
فقد نسي هؤلاء أن نفاذية وتأثير الدعوات الدينية تحتاج قدراً من الرصانة، والغموض، والاقتصاد في القول، والبعد عن الظهور، والخفاء، معظم الأديان والمذاهب تلجأ للخفاء، والغموض حتى تظل شعلة الشغف والعطش مشتعلة، وحتى يظل أمر الدين في النفوس فيه من القداسة الشيء الكثير، لأنه بدون تلك القداسة لا يكون ديناً، بل يكون فلسفة، أو قانونا، أو مجرد أيديولوجيا سياسية.
خرج هؤلاء بكل ما فيهم إلى الجمهور العام، وأخرجوا له كل ما فيهم، فانكشف حالهم، وانفضح سترهم، وسقطت هيبتهم، وهيبة دعواهم، ومذاهبهم، وطرائقهم في الحياة، فقد أخرجوا للناس كل سوءاتهم، وظهر ما فيهم من الدجل والشعوذة، والتجارة بالمقدس، ظهرت أسرارهم الخفية التي عاشوا يستحمرون العوام بها قروناً.
هنا كان انتقام الآلة من الإنسان، استدرجته ثم صرعته، وحولته إلى عبد للأضواء والشهرة ونظرات الإعجاب. في يوم 6 أغسطس 2015 نشرت في صحيفة التحرير القاهرية مقالاً بعنوان "العلماء والعوام.. من يفسد من؟". جاء فيه: "مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي تحوّل الدعاة والوعاظ والعلماء إلى نجوم كبار يتنافسون في أرقام المتابعين لهم تنافس المراهقين، ويحرصون على زيادة أعداد المتابعين لأنها تؤكد الزعامة، وتحدد الأوزان النسبية لتجار الدين، وتحكم علاقاتهم، ومن ثم تحدد سعر الواحد منهم، أو سعر فتواه، أو سعر الجرعات الدينية التي يبيعها، وهذه الحالة جعلت العالِم في حالة احتياج شديد إلى العامي الذى يتابعه، ويمثل رقما مهمًّا في وجوده، لذلك أصبح العالِم يبذل قصارى جهده لإرضاء المتابع العامي، وعدم إغضابه، والحفاظ على وجوده على صفحته على «فيسبوك» أو «تويتر»، وهذا يقود العالِم إلى نفاق العامي، وعدم قول أي شيء لا يرضي العامي، بل غالبا يقول ما يتوقع العامي، وهنا أصبح العامي يقود العالِم ويتحكم في آرائه، فتجده يتخذ المواقف الحادة غير العادلة التي تلحق أشد الضرر بالأمة ليكون نجما عند العوام، وليرضى عنه العوام."
ولعل ما نشاهده اليوم في ثورة شباب العراق ولبنان على كل الرموز الدينية والطائفية، وعدم إصغاء الشباب لحيل المرجعية الدينية التي تحاول استدراجهم للوقوع في مصيدة الأحزاب السياسية التي خلطت الدين بالفساد بالانتهازية السياسية، كل ذلك هو نتيجة لمرحلة السقوط التي كشف فيها الإعلام مستور رجال الدين.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة