لماذا تدعم إيران وتركيا وقطر المليشيات المسلحة بطرابلس؟
معركة تحرير طرابلس هي في الواقع محاولة لتحرير ليبيا من قبضة قوى الشر التي تسعى لإحكام قبضتها على المستقبل الليبي.
مع دخول عملية "طوفان الكرامة" شهرها الثاني بدأت المواقف الدولية والإقليمية تتبلور بشكل أكبر خاصةً في ظل محاولة فايز السرّاج رئيس حكومة الوفاق الوطني، الحصول على دعم دولي عبر جولته الأوروبية الأخيرة خلال الفترة من 7 حتى 10 مايو/أيار الجاري جنبًا إلى جنب مع تبلور سعي ثلاثي الأطراف متمثل في تركيا وقطر وإيران في دعم مليشيات طرابلس بالأسلحة، وتقديم الدعم اللوجستي لها ضد الجيش الوطني الليبي خاصةً في ظل خسائر حكومة الوفاق المتزايدة على مدار الأسابيع الماضية.
خسائر حكومة الوفاق
منذ إطلاق عملية طوفان الكرامة في 4 أبريل/نيسان الماضي بهدف إنهاء وجود المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية في طرابلس، حقق الجيش الوطني الليبي العديد من المكاسب سواء ميدانيا أو سياسيا، وفي المقابل مُنيت حكومة الوفاق بخسائر عدة، يمكن تبيينها على النحو التالي:
- تراجع الشرعية: فشل السرّاج في الحصول على دعم أوروبي كافٍ خلال جولته في بعض العواصم الأوروبية ومنها فرنسا وبريطانيا على مدار الفترة من 7 حتى 10 مايو/أيار الجاري، حيث لم ينجح في الحصول على دعم لرؤيته القائمة على عودة الجيش الوطني الليبي إلى مواقعه قبل الرابع من أبريل/نيسان بل تبلور الموقف الأوروبي في غالبيته على ضرورة وقف إطلاق النار، وهو ما يعني إبقاء الوضع كما هو عليه بما يعتبر مكسب عسكري وسياسي لقوات المشير خليفة حفتر لاسيّما مع دعوة مجلس الأمن في 11 مايو/أيار إلى العودة بشكل سريع للوساطة الأممية والتعهُّد باحترام وقف إطلاق النار.
- تقييم سلوك المليشيات: اقترحت فرنسا إجراء تقييم للمجموعات المسلحة في ليبيا، وذلك بالتعاون مع الأمم المتحدة، وهو توجُّه يعكس القلق الدولي من ارتباط السرّاج وحكومة الوفاق الوطني بمجموعة من المليشيات المسلحة التي تنخرط في عمليات عنف وإرهاب، وبالرغم من إعلان السرّاج موافقته واستعداده على القيام بذلك إلا أنه في الواقع الفعلي يعي جيدًا أن تنفيذ ذلك يعني تجريده من أدواته العسكرية التي يحاول أن يناور بها من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ويأتي موقف باريس متسقًا مع ما دعت إليه فرنسا في نهاية أبريل/نيسان الماضي من ضرورة إضافة بند لبيان الاتحاد الأوروبي يتضمن إدانة واضحة لمشاركة مليشيات مسلحة إلى جانب حكومة الوفاق الوطني.
- التورُّط مع الإرهابيين الأجانب: في ظل فشل السرّاج في مواجهة النجاحات الميدانية للجيش الوطني الليبي باتجاه العاصمة طرابلس فقد اتجه إلى الاستعانة ببعض المقاتلين الأجانب والمرتزقة، ولعلَّ إعلان الجيش الوطني الليبي في السابع من مايو/أيار الجاري عن إسقاط طائرة حربية تابعة لحكومة الوفاق الوطني يقودها مرتزق أجنبي برتغاليّ الجنسية يكشف عن الدور الذي يلعبه المقاتلون الأجانب في تأجيج الصراع الليبي بمساعدة بعض الدول الساعية إلى إحداث الفوضى في المنطقة، ويعد ظهور المقاتلين الأجانب في ليبيا أمرا ليس بجديد في ظل تقديرات صادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تشير إلى وجود أكثر من 3 آلاف إرهابي أجنبي في ليبيا من أكثر من 40 دولة مختلفة.
إعادة إنتاج نموذج اللادولة
دخول تركيا وقطر وكذلك إيران على خط المواجهة في الصراع الليبي الدائر يعكس حجم الاستقطاب الإقليمي الكبير في ظل نجاح الجيش الوطني الليبي في تحقيق نجاحات كبيرة، حيث تسعى تلك الدول إلى محاولة استنساخ التجربة السوريّة في ليبيا عبر تأجيج الصراع وتوظيف المليشيات المسلحة ودعمها في مواجهة الجيش الوطني، في إطار إعادة إنتاج نموذج اللادولة على الأراضي الليبية.
ولذا فلم يكن مستغربا إعلان غرفة عمليات الكرامة التابعة للجيش الوطني الليبي في 15 مايو/أيار عن وصول سفينة إيرانية بحمولة مجهولة إلى ميناء مصراتة شرق طرابلس، وهي ليست المرة الأولى التي تقوم فيها إيران بذلك، حيث إنه في أواخر أبريل/نيسان الماضي استقبل ميناء مصراتة سفينة شحن إيرانية مملوكة لشركة نقل حكومية إيرانية مدرجة على قائمة العقوبات الأمريكية.
ولاشكّ أن محاولة إيران تأجيج الصراع في ليبيا تعكس سعيا إيرانيا حثيثا وخبيثا في الوقت ذاته من أجل خلق موطئ قدم جديد في الشرق الأوسط يمكن أن تساوم أو تفاوض به خاصة في ظل التضييق الأمريكي الكبير عليها اقتصاديا بما أثقل كاهل الإيرانيين، وهو ما دفع الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى الإقرار في 11 مايو/أيار الجاري بصعوبة الأوضاع، حيث قال إن بلاده تعيش ظرفا ربما يكون أصعب من أوضاع البلاد خلال الحرب مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي.
ويعكس ذلك الظهور الإيراني المريب في المشهد الليبي بدرجة كبيرة حجم المواءمات السياسية القائمة مع قطر، حيث إن ذلك التحرك الإيراني يتلاقى مع الرغبة القطرية في مساعدة المليشيات المسلحة المتمركزة في طرابلس، خاصةً في ظل اتهامات الجيش الوطني الليبي لقطر بتمويل تلك المليشيات وزعزعة الأمن والاستقرار في ليبيا.
كذلك، فإن تركيا لا تكف عن تقديم كافة أوجه الدعم الممكنة للمليشيات المسلحة خاصةً على مستوى التسليح لاسيّما الطائرات بدون طيار تركيّة الصُنع جنبًا إلى جنب مع إرسال المقاتلين عبر خط مفتوح من تركيا جوا وبحرا، ومنها رحلات جويّة مباشرة من تركيا إلى مصراتة، والتي تقوم بنقل بعض المقاتلين المنخرطين في الصراع السوري، وعلى رأسهم بعض مسلحي جبهة النصرة، وهو ما دعا وزير الخارجية والتعاون الدولي في الحكومة الليبية المؤقتة في 14 مايو/أيار الجاري إلى المطالبة بضرورة تحرك المجتمع الدولي لوقف دعم تركيا لتلك المليشيات.
توظيف حكومة الوفاق للإرهاب
يؤكد ظهور تنظيم داعش في مسرح العمليات في ليبيا بشكل أكبر خلال الأيام الماضية، أهمية معركة طوفان الكرامة في تحرير طرابلس من قبضة المليشيات المسلحة، ويعد ظهور داعش مرتبطًا بشكل كبير بظهور أبوبكر البغدادي في أواخر أبريل/نيسان الماضي بعد 5 أعوام من الاختفاء، خاصةً أن كلمته قد تضمنت الثناء على أتباعه في ليبيا والعمليات الإرهابية التي ينفذونها.
وفي ضوء ذلك فقد قام تنظيم داعش في التاسع من مايو/أيار الجاري بتنفيذ هجوم إرهابي على بلدة غدوة جنوبي ليبيا أسفرت عن مقتل 3 أشخاص كما قام في 4 مايو/أيار الجاري بتبنّي مسؤولية الهجوم على مقر تدريب تابع للجيش الوطني الليبي في مدينة سبها جنوب البلاد.
وتشير دراسة صادرة عن مركز مكافحة الإرهاب (CTC) بالولايات المتحدة في مارس/ آذار 2019 إلى أنه بنهاية عام 2018 بلغ عدد أعضاء داعش في ليبيا نحو750 عضوا يُشكِّل غير الليبيين منهم نحو 80% في إشارة إلى وجود نسبة مرتفعة من المقاتلين الأجانب بين التنظيم، ويأتي تلاقي الأهداف بين تنظيم داعش الإرهابي وبين حكومة الوفاق في إبقاء الوضع كما هو عليه في طرابلس بانتشار المليشيات المسلحة ليفضح اصطفافات حكومة الوفاق القائمة على توظيف العنف والإرهاب بشكل أساسي، وهو ما يُمهّد لنزع الشرعية عن تلك الحكومة في وقت قريب.
انقسام تحالف المليشيات
إن التحالف القائم بين حكومة الوفاق وبين المليشيات المسلحة هو تحالف هشّ في ظل تباين الأيدولوجيات والأهداف، ولذا فإنه يحمل بين طيّاته عوامل ضعفه وتفكُّكه، كذلك فإن التحوُّل في التوازنات لصالح الجيش الوطني الليبي من شأنه أن يُعزِّز من هشاشة ذلك التحالف علاوةً على إمكانية رفض بعض المليشيات المسلحة للخيارات السياسية المطروحة خاصة المتعلقة بوقف إطلاق النار، وهو ما يعني احتمالية حدوث انقسام حاد لذلك التحالف في وقتٍ قريب خاصةً أن هناك عداءات وصدامات سابقة بين بعض تلك المليشيات وبين حكومة الوفاق.
كذلك فإن موافقة السرّاج بشكل مبدئي على المقترح الفرنسي الخاص بتقييم سلوك الفاعلين المسلحين من غير الدول في ليبيا من شأنه أن يُعزّز من حدوث انقسامات بين مليشيات طرابلس وحكومة الوفاق في المستقبل القريب، خاصةً أن ذلك يعني ضمنيا استبعاد تلك المليشيات من أي ترتيبات مستقبلية لاسيّما وأن بعض قادة وعناصر تلك المليشيات مفروض عليهم عقوبات دولية، ومنهم إبراهيم الجضران المفروض عليه عقوبات أمريكية لقيادته هجمات إرهابية على منشآت نفط ليبية.
وختامًا، فإن معركة تحرير طرابلس من المليشيات المسلحة هي في الواقع محاولة لتحرير ليبيا من قبضة قوى الشر التي تسعى لإحكام قبضتها على المستقبل الليبي عبر توظيف المليشيات المسلحة من أجل تحقيق أهدافها الخاصة ومحاولة إعادة إنتاج نموذج اللادولة، ولا يمكن الحديث عن أي استقرار في ليبيا ما دامت تلك المليشيات جزءا من المعادلة السياسية والأمنية، كذلك فإن تحوُّل ليبيا إلى بؤرة استقطاب للعديد من التنظيمات الإرهابية على رأسها تنظيم داعش إنما يؤكد أهمية استكمال معركة تحرير طرابلس من قبضة المليشيات المسلحة كأولوية مُلّحة من أجل بناء دولة ليبية موحدة لديها جيش وطني واحد غير مؤدلج، ولا يتبع أي مليشيات أو أجندات خارجية.