الوصف الذي يُطلق على حكومة جورجيا ميلوني في إيطاليا بأنها "يمين متطرف" لم يعد يتناسب مع الواقع.. ولا سبيل لمقارنته بغيره في أوروبا.
توجد شبهاتٌ تتعلق بما يُعتقد أنه "جذور فاشية" لحزب "أخوة إيطاليا"، الذي تقوده "ميلوني"، إلا أنها قدمتْ ما قد يكفي من الأدلة على أن حكومتها حكومة يمينية محافظة تقليدية، على غرار باقي حكومات اليمين الأوروبية الأخرى، وهي أكثر براجماتية واعتدالا من غيرها، وإنها حتى في ما يتعلق بقضايا معاداة الإسلام والهجرة أقل تطرفا من حكومة بوريس جونسون، والمحافظين بوجه عام، في بريطانيا.
"ميلوني" لم تقدم أوصافا شنيعة للمسلمين مثلما فعل جونسون.. ولم تقترح ترحيل المهاجرين إلى رواندا.. ومع ذلك فقد أمكن للأوروبيين وللمسلمين أن يتعايشوا مع حكومة جونسون في نوع من احترام الواقع وقبول اشتراطاته.
حكومة "ميلوني" لم تكشف، أيضا، عن ميل لمعاداة أوروبا، مثلما فعلت حكومة جونسون. ما حصل هو العكس تماما.
هذه المرأة أظهرت عودها الصُّلب عندما قالت إن إيطاليا جزء لا يتجزأ من أوروبا ومن الحلف الأطلسي.. وتبنّت الموقف الغربي نفسه حيال الحرب في أوكرانيا، واعتبرت هذه الأركان حجر زاوية لسياسات حكومتها. وزادت على ذلك بالقول "إن أي شخص لا يتفق على حجر الزاوية هذا، لا يتعين أن يكون جزءا من الحكومة".
العود الصُّلب برز أكثر في تشكيلة الحكومة، فكانت، إلى حد كبير، حكومة تكنوقراط أكثر منها حزبية.. ما يعني أن "ميلوني" تحاول أن تُنجز عملا لإخراج إيطاليا من أزمة الديون والتضخم والبطالة، لا أن تخوض صراعا أيديولوجيا حول قضايا ثانوية، كما الحال بالنسبة لليمين المتطرف الحقيقي في أوروبا، الذي يستخدم معاداة الإسلام والهجرة للتغطية على برامجه الفاشلة في القضايا الكبرى.
هناك عمل، و"ميلوني" تريد أن تنجزه، ليس بمفردها، وليس بسياسات عدائية مع أوروبا، وإنما بالتعاون معها.. وقد كانت من القوة بحيث أنها لم تظهر كرهينة لحليفَيها الآخرين سيلفيو برلسكوني، زعيم حزب "فورزا إيطاليا"، وماتيو سالفيني، زعيم حزب "الرابطة"، فأبعدت الأول عن التشكيلة الحكومية، ومنحت الثاني منصبا فرعيا هو وزير "البنية التحتية".. وباستثناء الوزراء التكنوقراط العشرة، الذين لا ينتمون إلى أحزاب، فإن وزراءها الآخرين أقرب إلى التكنوقراط.
وزير الاقتصاد جيانكارلو جورجيتي، مثالا، وإن كان عضوا في حزب "الرابطة"، إلا أنه كان وزيرا للصناعة في حكومة ماريو دراجي السابقة، وبقي رئيسا للجنة الميزانية في مجلس النواب من 2001 إلى 2013، ما يجعله غير غريب ولا طارئ على شؤون وزارته.
أما وزير الخارجية أنطونيو تاجاني، فرغم أنه نائب زعيم حزب "فورزا إيطاليا"، فإنه نشأ داخل الوسط الأوروبي أكثر من غيره، إلى درجة أن مسيرته السياسية ترتبط ببروكسل أكثر مما ترتبط بروما نفسها.. فقد ترأس البرلمان الأوروبي بين عامي 2017 و2019.. وكان عضوا في المفوضية الأوروبية، مفوضا لحقيبة النقل بين عامي 2008 و2010، ومفوضا لحقيبة الصناعة بين عامي 2010 و2014.. وكان من المُلفت تماما أن يكون أول اتصال يُجريه في منصبه الجديد مع وزير الخارجية الأوكراني ديميترو كوليبا، في إشارة تضامن لا تقبل الشك.
هذه الأمور هي التي كفلت لـ"ميلوني" أن تتلقى اتصالات تهنئة واستعدادات للعمل المشترك من معظم القادة الأوروبيين، ومن الرئيس الأمريكي جو بادين، والمفوضية الأوروبية، ومجموعة الصناعيين.
من السابق لأوانه معرفة كيف أو كم سوف تنجح "ميلوني" في معالجة أزمات البلاد الاقتصادية، لأنها عميقة، وتتطلب معالجات صعبة، حيث تبلغ الديون الإيطالية نحو 159 بالمئة من الناتج الإجمالي.. وعندما ترتفع تكاليف خدمة الديون عما يحققه الاقتصاد من عائدات، فإن الرهان الوحيد الذي يبقى لتجاوز المأزق هو النمو.
وأبعاد الكارثة سرعان ما تتضح عندما يتراجع النمو إلى مستويات أقل مما يسمح ببقاء الموازنة العامة عائمة.
إيطاليا تنتظر، لأجل بقاء القارب عائما، الحصول على حزمة إنقاذ من الاتحاد الأوروبي تبلغ 200 مليار يورو من إجمالي صندوق التعافي الأوروبي، البالغ 750 مليار يورو، وذلك على هيئة قروض ومنح.. كما تنتظر الحصول على 21 مليار يورو من المساعدات الإضافية في نوع من المكافأة على الإصلاحات التي تم تنفيذها في مجالات التوظيف العام والضرائب والرعاية الصحية في ظل حكومة "دراجي".
براجماتية "ميلوني" وصلابتها، وميلها إلى الاعتماد على الخبرات الموثوقة في الاقتصاد والسياسة الخارجية، يقول إنها تريد أن تنجح. وإنها أبعد ما تكون عن "التطرف" الأيديولوجي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة