الفترة القليلة الماضية شهدت عودة صعود ونشاط كبير لتنظيم داعش في في سوريا، حيث استيقظت الخلايا في مناطق متعددة خصوصاً في البادية.
رغم كل الاستعجال في الإعلان عن الانتصار على تنظيم داعش، والصمت على انبعاث «القاعدة» في أكثر من جبهة؛ فإن التقارير تشير إلى بقاء بل وتجنيد مجموعات من المقاتلين الجدد في مناطق التوتر على شكل جيوب صغيرة تستغل الأوضاع هناك، والتي تسهل بقاء «داعش» وعودة «القاعدة» بسبب أن النزاع في سوريا تحديداً تحول إلى تعارض إرادات أممية ودولية، فالإبقاء على الأسد من قبل إسرائيل مشروط بانتزاع حلفه مع الإيرانيين وبضمانات تقدمها روسيا، الحليف الذي يرغب في الهيمنة وعدم مزاحمة الملالي الذين باتوا محل رفض جميع الأطراف الدولية على أثر الحملة الأميركية الأخيرة، وإدارة ترامب من جهتها تغير استراتيجيتها وترغب في سحب القوات الأميركية من سوريا في أسرع وقت ونفي أي رغبة في الوجود الدائم؛ على الرغم من أن هدف التخلص من جيوب «داعش» لا يبدو قريب المنال لا في سوريا ولا حتى في العراق، بل أبعد من ذلك، فإن انكسارات التنظيم هنالك يقابلها انتعاش كبير في آسيا وبناء تحالفات قوية ومتينة مع التنظيمات الإرهابية المحلية، ومزاحمة «طالبان» و«القاعدة» في أفغانستان.
الخطأ اليوم في إعلان هزيمة «داعش» يذكّرنا بخطأ سابق بالقضاء على تنظيم القاعدة في العراق بعد الانسحاب الأميركي منه في عام 2011، والذي لم يقضِ على «القاعدة» وإنما نقل استراتيجيته وحضوره واهتماماته من العراق إلى سوريا ثم إلى قارة أفريقيا وصحرائها التي ينشط فيها التنظيم اليوم
السؤال المطروح اليوم: مَن يحدد نهاية تنظيم داعش؟ وماذا تعني تلك النهاية.. هل هي مفهوم رمزي يعني القضاء على مجتمع «داعش» ودولته المزعومة أو قطع الإمدادات المالية واللوجيستية عنه، والتي نعلم تماماً أنها محل تبدل وتحول لدى التنظيم الذي عقد تحالفات واسعة مع شبكات المهربين وتجار الأسلحة، بل واستغلال النزاع بين القوى المناهضة للنظام في سوريا وبين النظام نفسه؟
الفترة القليلة الماضية شهدت عودة صعود ونشاط كبير لتنظيم داعش في في سوريا، حيث استيقظت الخلايا في مناطق متعددة خصوصاً في البادية، لا سيما بعد مخاوف متصاعدة من تنظيم القاعدة الذي بات منافساً لـ«داعش»؛ الذي دشن مركز عملياته الجديدة في محافظة دير الزور ضد قوات سوريا الديمقراطية عند الحدود الإدارية بين ريف حمص الشرقي وريف دير الزور، كما تمكن التنظيم من إعادة استهداف مدينة البوكمال التي تعد منطقة استراتيجية على الحدود مع العراق، وواجه معارك شرسة مع قوات النظام قبل أن ينسحب منها بعد فرض حظر التجول.
تنظيم داعش يطوّر من استراتيجيته في المواجهة، ويستبدل بالعمليات القتالية التي تتطلب عناصر ومجموعات كبيرة حروب استنزاف عبر تكنيك إرسال انتحاريين من خلال الدراجات النارية، وتفيد التقارير بأن غالب الانتحاريين كانوا متحصنين منذ سنوات في جنوب العاصمة دمشق.
لا شك أن حضور «داعش» الجديد في سوريا جزء من تغيير التنظيم لاستراتيجيته من العمليات المتقطعة إلى الدخول في مرحلة استنزاف ضد المجموعات المعارضة للنظام خصوصاً قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو ما يعني وجود تسهيلات من النظام لمرور عناصر «داعش» إلى تلك المناطق.
حسب تقارير كثيرة، «داعش» يعود إلى الداخل السوري وينتعش جزئياً في العراق الذي غطت مسألة الانتخابات وما حدث فيها على أخبار التنظيم هناك، الذي يشعل معاركه باستراتيجيات مختلفة قائمة على الكر والفر ونصب الكمائن للعشائر والمتعاونين مع الدولة، وحسب تقارير ميدانية هناك أكثر من 4000 مقاتل ما زالوا نشطين في مناطق التوتر رغم كل الخسائر التي مني بها التنظيم وعودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم؛ إما بهدف التحضير لعمليات نوعية لصالح سمعة التنظيم الدولية، وإما الترتيب للسفر مجدداً نحو مناطق توتر جديدة يستثمر فيها التنظيم في أفغانستان وإندونيسيا والفلبين، ومساحة واسعة من الدول التي كانت تحت حكم الاتحاد السوفياتي سابقاً.
الخطأ اليوم في إعلان هزيمة «داعش» يذكّرنا بخطأ سابق بالقضاء على تنظيم القاعدة في العراق بعد الانسحاب الأميركي منه في عام 2011، والذي لم يقضِ على «القاعدة» وإنما نقل استراتيجيته وحضوره واهتماماته من العراق إلى سوريا ثم إلى قارة أفريقيا وصحرائها التي ينشط فيها التنظيم اليوم.
إعادة البناء للتنظيمات الإرهابية أسهل بكثير من إعادة التجييش ضدها أو إعلان الحرب عليها، فالتنظيمات تستند إلى أيديولوجيا عقائدية محفزة لقطاعات واسعة من الشباب الغاضب المتأثر بطروحات القتال المقدس، والتغيير المسلح واللعب على ملف المظالم الذي يمكن أن يتجدد في أكثر من موقع، لا سيما تلك المظالم الطائفية أو المتعلقة بشعارات استهداف الغزاة.
وبإزاء تنظيم داعش يعود «القاعدة» المتمرّس في العمل الطويل وكسب الولاءات بين صفوف المقاتلين اعتماداً على إرثه الطويل نسبياً، وأيضاً تأكيده أنه يملك شرعية الجهاد والقتال أكثر من «داعش» الذي يتهمه «القاعدة» بالفوضوية في أهدافه وبالغموض في استراتيجيته الحربية.
عودة «القاعدة» جاء عبر إعلان تنظيم «حراس الدين»، وحسب بيانه الأول المثير للجدل في مارس (آذار) الماضي، أكد أنه فرع عن تنظيم القاعدة الدولي، لكن الإثارة أنه قام بلعب دور تصالحي بين تنظيمات أخرى كهيئة تحرير الشام وجبهة تحرير سوريا وتنظيمات محلية، داعياً إلى ضرورة إعادة رص الصفوف باتجاه هدف واحد وهو مقاتلة النظام، في إلماحة ولمز تجاه أهداف «داعش».
تنظيم «حراس الدين»، النسخة الجديدة من «القاعدة» في سوريا، يهدف إلى منافسة «داعش» أو ما تبقى من التنظيم عبر الأسلوب نفسه، وهو الهجمات الانتحارية الفردية في شمال سوريا، ويراهن على تفوقه بأنه يمتلك قاعدة من خبراء «القاعدة» القدامى، وقدرته على استقطاب المقاتلين المحليين وكسب ثقتهم.
اللافت في طروحات تنظيم «حراس الدين» هو عدم تعرضه للتدخل الإيراني في سوريا، كما أنه غير مستهدَف حتى الآن من مليشيات طهران المقاتلة في سوريا، وهو ما يعيد إلى الأذهان علاقة «القاعدة» بإيران والصفقات الغامضة التي تمت بالإفراج عن قياديين في «القاعدة» منذ 2015.
مستقبل الإرهاب عبر أهم تنظيمين فاعلين الآن، «القاعدة» و«داعش»، يشي بالكثير من عدم التفاؤل، كما أن مستقبل التحالف الدولي بعد الإشارات عن انسحاب أميركي من سوريا وتوغل روسي إيراني، يعني أننا أمام حالة من الانبعاث ليس للمقاتلين والمجندين الجدد؛ وإنما للظروف والمناخات التي تنتج ولادة الدافع الإرهابي، وأولها ملف الطائفية والمظالم المحلية كما هو الحال مع الشعارات البرّاقة لاستقطاب الأجيال الجديدة المتأثرة بالخطاب العنفي؛ الذي أصبح مفتوح المصدر على شبكة المصدر وبلا قيادات محددة يمكن ملاحقتها. الفكرة الإرهابية اليوم انتقلت من المحضن التنظيمي لتصبح منتجاً بلا مرجعية، وهو ما يفاقم الوضع.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة