تقرير هذا العام يأتي تزامنا مع الذكرى 70 لاحتلال فلسطين "1948-2018".. سبعون عاما من الاحتلال والتقطيع والاستيطان والتهجير والقتل
فلسطين في تلك المرايا المتباينة بين الوعي والعاطفة، بين العقل والقلب، إنه ليس مجرد عنوان نحته مفكرون ومثقفون منتمون لعروبة متأزمة ولواقع تعصف به أمواج التغيير، وإنما توصيف لحالة راهنة، لأزمة ممتدة في التاريخ والوجدان.
"فلسطين في مرايا الروح والإبداع" هو آخر عنقود الفيض لمؤسسة الفكر العربي، إذ ترافق إصداره مع فعاليات مؤتمرها السابع عشر الذي عقد مؤخرا في المملكة العربية السعودية.
جاء تقرير هذا العام وهو التقرير الحادي عشر بعنوان "فلسطين في مرايا الفكر والإبداع" وكما نقول دائما جاء في وقته، وفي موعده، وفي أزمته. جاء ولا حديث في أذهان الناس إلا عن صفقات لإذابة القضية الفلسطينية عن الوجود، جاء والعالم العربي مشغول بأزماته الداخلية
في الفترة بين الثاني والخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري، دارت فعاليات هذا المؤتمر في الظهران في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء" تحت شعار كبير هو "نحو فكر عربي جديد"، ولعل هذا العنوان جاء في سياق دعوة أطلقها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في مؤتمر "فكر 15" الذي استضافته أبوظبي في عام 2016، حيث قال وقتها: "لمالا نعتمد نهجا جديدا وفكرا جديدا؟".
وكانت الترجمة الحقيقية لهذه الدعوة ما دار في مؤتمر هذا العام في الظهران، حيث تمحور العمل والنقاش على تلمس كل ما من شأنه أن يصب في استحداث منظومة فكرية جديدة غير تلك التي اتبعناها في العقود الماضية والتي كانت نتيجتها صفرا بامتياز. بعد كل هذه العقود اكتشفنا أننا نسير إلى الوراء أكثر، وننظر إلى الخلف أكثر. ولأن الأشياء تفسد وتصلح من رأسها، فإن رأس الأمة الفكر، وبالتالي من أراد إصلاحا فليبدأ بالرأس أولا ثم تأتي بقية الجسد.
حرصت مؤسسة الفكر العربي منذ انطلاقها عام 2000 على رصد المسار الثقافي العربي عبر مؤلفات في البداية، فصدر كتابان سنويان؛ الأول جاء بعنوان "الثقافة والمثقفون العرب – التحديات والمسؤولية"، والثاني بعنوان "نحو نموذج ثقافي جديد في عالم متحول". ثم عملت على تطوير الفكرة إلى إصدار تقرير سنوي يكون "ترمومترا"، كاشفا واقع العالم الثقافي العربي، فجاء "التقرير العربي للتنمية الثقافية".
وهنا نقف وقفة مهمة حول ما أحدثته مؤسسة الفكر العربي حين نقلت مفهوم التنمية الذي كان قاصرا على مجالات الصناعة والموارد البشرية إلى الثقافة بمعناها الواسع، لتحدث توازنا مع "تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة"، الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كمؤشر للتنمية البشرية.
فالمؤسسة سارت بالآلية نفسها للكشف عن منعطفات الواقع الثقافي العربي، واختارت موضوعا بعينه ليكون الباب الذي يدخل عبره الباحثون ليكشفوا لنا ما وصل إليه حال الثقافة.
ومنذ 2008 وحتى الآن، أصدرت مؤسسة الفكر العربي أحد عشر تقريرا سنويا، فبدأت مثلا "بالصناعة الثقافية" و"حركة التأليف والنشر"، و"التعليم الجامعي وسوق العمل".
وكما هو واضح من العناوين، فإن هناك وعيا حقيقيا بالسعي إلى نقل الثقافة من حيزها النظري الاستهلاكي إلى آفاقها العملية والصناعية، فالثقافة لا يمكن أن تتقدم طالما هي عالة على الآخرين، تحتاج من ينفق عليها، وتحتاج من يحركها، الثقافة مجال خصب لكي تصبح مكتفية بذاتها وتخرج من دائرة اليتم والشفقة.
إن النهج الذي اتبعه التقرير هو ربط الثقافة بواقعها، وأن تكون السؤال الحيوي الذي يقود قاطرة التقدم ويفك ألغاز الحياة.
لقد كان التقرير في بعض عناوينه متتبعا دقيقا لحلم عربي كدنا أن ننساه، هو التكامل العربي، البديل الواعي لحلم الوحدة المتآكل مع الزمن بعد فشل تجربة القومية العربية، فارتكز التقرير على فكرة التكامل العربي وربطها بموجة الربيع العربي الأولى، وضرب نموذجا ناجحا لإمكانية حدوث هذا التكامل، وهو النموذج المؤسساتي "دول مجلس التعاون الخليجي"، ذلك المجلس الذي نقل روابط الحياة الاجتماعية المشتركة إلى عمل مؤسساتي في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة.
يشمل كل تقرير مجموعة من الدراسات البحثية العلمية المعمقة في المجال، تتحرك من الماضي وعيناها على المستقبل، فالهدف الرئيسي دائما هو التأسيس إلى حضور عربي في المستقبل حتى لا ينطبق القول الحاضر علينا: "نعيش في الماضي، غير حاضرين في الحاضر، مطروحين من المستقبل".
جاء تقرير هذا العام وهو التقرير الحادي عشر بعنوان "فلسطين في مرايا الفكر والإبداع"، وكما نقول دائما جاء في وقته، وفي موعده، وفي أزمته. جاء ولا حديث في أذهان الناس إلا عن صفقات لإذابة القضية الفلسطينية عن الوجود، جاء والعالم العربي مشغول بأزماته الداخلية، ففي كل دولة ما يكفيها من مشكلات، جاء والربيع العربي متنقلا بين موجته الأولى التي بدأت عام 2011 وموجته الثانية التي بدأت العام الماضي (2018) في السودان والجزائر، حتى وصلنا إلى الموجة الثالثة في العراق ولبنان، موجات شغلت العقل والذهن العربي معا، شغلته عن كثير من قضايانا ومنها فلسطين.
تقرير هذا العام يأتي تزامنا مع الذكرى السبعين لاحتلال فلسطين "1948 -2018".. سبعون عاما من الاحتلال والتقطيع والاستيطان والتهجير والقتل.
في هذه السبعين عاما الماضية تأرجحت القضية الفلسطينية بين القلب والعقل، حتى وصلت إلى مربع مخيف وهو الاعتياد، اعتادت العين والعقل على الاحتلال، فأصبحنا نرى شهداءنا في فلسطين بعين التعود، ووصلنا إلى مرحلة خطيرة؛ وهي أن القضية الفلسطينية سكنت في مقام العاطفة والقلب فقط، قضية نحبها كثيرا، هي قضيتنا الأولى لكننا سلمنا بأن لا أمل في الحل، أو استسلمنا أمام كثير من التحديات.
وهنا تظهر أهمية هذا التقرير "فلسطين في مرايا الفكر والإبداع". الدراسات التي جاءت في هذا التقرير تعيد القضية الفلسطينية إلى مقام العقل والتفكير مرة أخرى، تبقيها في العقل والقلب معا، هذا التقرير يؤسس لغاية مهمة وهي المقاومة بالثقافة، المقاومة بالوعي، فالتقرير يتحرك بخفة فكرية رائعة بين غرف القضية الفكرية، يفتح أبوابها المغلقة، يزيح عنها تراب النسيان أو التناسي، يحوي التقرير سبعة محاور أو يتنقل بين سبع غرف مهمة:
وهي فلسطين في فكر رجالات النهضة العربية، وفيه يؤكد أن فلسطين كانت وما زالت قبل أن يولد من فكّر في وجود بذرة شيطانية اسمها إسرائيل. ثم ينتقل إلى فلسطين فلسفيا وفي مدارات العلوم الإنسانية، وفلسطين التاريخ والهوية وفلسطين في مرايا الأدب والفن والإبداع، وفلسطين في مرايا الثقافة العالمية، واللغة والتربية والعلوم في فلسطين، ثم ينتهي بملف كامل وعميق عن القدس.
لا تقف آلية مؤسسة الفكر مع التقرير عند الإصدار وفقط، بل تتنقل به بين العواصم العربية؛ تعقد ندوات، وتدير جلسات نقاشية، وورش عمل.. تتحرك المؤسسة بتقاريرها بين العواصم العربية كأنها تتحرك بمولودها، تعرفه على الجغرافيا، وتعرف التاريخ عليه.
وهنا سنقف أمام جملة من الدلالات:
أولا: إننا أمام عمل مؤسساتي في مولده وفي نضجه، فالتقرير ليس مؤلفا يتيما أصدره قلب محب للقضية، واكتفى بما أصدر وإنما تقف خلفه مؤسسة مهمة، مؤسسة هي في حد ذاتها تمثل نقلة في العمل الثقافي العربي، نقلة من حكومية الثقافة وضيقها، إلى فضاء العمل الأهلي، فمؤسسة الفكر هي مؤسسة أهلية ليست حكومية وغير هادفة للربح.
ثانيا: التقرير يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه فيما تبقى من القضية الفلسطينية التي كانت مركزية ثم تنازلنا عن مركزيتها، ليس جحودا بل لأن همومنا باتت أقرب، والموت انتقل من جوار الدار إلى داخل الدار.. التقرير يقاوم بالوعي ضياع الجغرافيا وذوبان الخرائط، ويعرف جيدا أن هناك جيلا بل أجيالا من شبابنا العربي لا يعرفون عن قضيتهم سوى الاسم، وهذا الجيل في حاجة لأن يعيد تسكين القضية الفلسطينية مرة أخرى في مربع الوعي، كما هي ساكنة بالفطرة في مربع الروح والوجدان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة