قطر التي أصبحت أول دولة شرق أوسطية تغادر "أوبك" قد لا يتوقف انسحابها من المنظمات الدولية عند هذه الخطوة.
قد يكون ما أعلنه وزير الطاقة القطري أمس بأن بلاده ستنسحب من منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) اعتبارا من يناير المقبل مفاجئا لخبراء الاقتصاد والمختصين في شؤون النفط، لكن وقع هذا الخبر قد يكون أقل مفاجأة على علماء السياسة وخبراء النظم السياسية الذين يحللون مثل هذه النوعية من القرارات وفقا لسياقها الذي يشمل عوامل عدة؛ أبرزها سلوك النظام السياسي الذي اتخذها آلية وبيئة صنع القرار، وهنا فإن الدوافع والعوامل الاقتصادية قد لا تفيد وحدها لفهم وتحليل القرار القطري الأخير بالانسحاب من أوبك، إذ لا يمكن تحليل هذا القرار بمعزل عن سياقه السياسي وسلوك النظام الذي اتخذته وممارساته ودوافعه، فبحسابات الاقتصاد يبدو أن هذا القرار بلا قيمة حقيقية وبلا تأثير يذكر، فقطر التي التحقت بعضوية أوبك في 1961 تحل في المرتبة الـ11 من حيث حجم إنتاج النفط بين أعضاء المنظمة، ولا يقل عنها في حجم الإنتاج سوى أربع دول فقط، ولم يتجاوز حجم إنتاجها في أكتوبر الماضي 609 آلاف برميل يوميا، وهو رقم ضئيل في سوق النفط، إذن يبدو جليا أن قطر دولة غير مؤثرة في منظمة أوبك وفي سوق النفط العالمية، حتى وإن توهمت أو أرادت غير ذلك، بحكم أنها منتج صغير وهامشي للنفط الخام ولا يتجاوز إنتاجها 1.85% من مجمل إنتاج منظمة "أوبك"، البالغ 23.9 مليون برميل يوميا، لذا لا يتوقع أن يثير خروجها من أوبك تأثيرا يذكر على المنظمة وسياساتها، أو على سوق النفط العالمية وأسعاره، حاليا أو مستقبلا، خاصة أن هناك دولا أخرى داخل المنظمة قادرة على تعويض الإنتاج القطري في السوق العالمية بكل يسر وسهولة، وهذا ما اعترف به وزير الطاقة القطري بنفسه بقوله إن تأثير الدوحة على قرارات إنتاج نفط "أوبك" محدود.
الأسباب السياسية هنا أيضا قد لا تكون بعيدة عن شعور الدوحة المتزايد بالعزلة مع استمرار المقاطعة العربية لها، ورغبتها في تقوية تحالفها البديل مع دول مارقة بدلا من العودة لمحيطها الخليجي والعربي، لذا كان طبيعيا أن تكون إيران هي أول المرحبين بالقرار القطري وأول المتفهمين له
هذا عن حسابات الاقتصاد، لكن بحسابات السياسة قد يبدو الأمر مختلفا، وقد تكون الانعكاسات السياسية لهذا القرار أقوى وأعمق من تأثيراته الاقتصادية، وقد تكون دوافعه أصلا سياسية لا اقتصادية، لذا فهناك رسائل وإشارات سلبية كثيرة يمكن أن يعكسها هذا القرار؛ أولها أن قطر دولة لا تفي بالتزاماتها ولا يمكن الوثوق بتعهداتها الدولية ولا تحترم ما تمليه عليها عضويتها في المنظمات الدولية، وهو نهج دأبت عليه الدوحة في كثير من المنظمات الإقليمية والدولية، فعلى الرغم من الأهمية الحيوية التي تحظى بها منظمة مثل أوبك ومدى تأثيرها دوليا نظرا لإداراتها سلعة استراتيجية تتأثر أسعارها بسرعة نتيجة أي قرار، لذا فهي دائما تضع المصالح الاقتصادية المشتركة فوق الاعتبارات السياسية، فإن الدوحة لم تأبه لكل ذلك وأعلنت قرار الانسحاب منها بشكل فردي ومفاجئ، ودون التنسيق مع بقية الأعضاء أو حتى إخطارهم، وهذا ما تجلى في إعلان قطر قرار الانسحاب، من الدوحة وفي مؤتمر صحفي، دون الانتظار للوصول إلى فيينا لحضور اجتماع المنظمة المقبل في السادس من ديسمبر للتشاور والتنسيق مع الأعضاء قبل إعلان القرار.
عدم الاحترام القطري لهذه المنظمة الدولية كان مزدوجا، فلم تكتفِ الدوحة بالانسحاب أحادي الجانب منها، بل أعقبت على الفور قرار الانسحاب بحملة تشويه سياسية وإعلامية لهذه المنظمة وتشكيك في دورها وشرعيتها وآليات عملها، وفي إطار هذه الحملة المنظمة يمكن تفسير التصريحات المضحكة لمدير المكتب الإعلامي بوزارة الخارجية القطرية أحمد الرميحي، التي اعتبر فيها قرار بلاده بالانسحاب "تحررا واستقلالية"، وأن "اقتصاد الدول لا يرتهن بمكالمة هاتفية للتخفيض والزيادة دون أدنى احترام لأعضاء المنظمة"، وكأن قطر انتظرت 57 عاما لتكتشف أن المنظمة تدار بهذه الطريقة المزعومة التي لا ترضيها، مثل هذه التصريحات تعطي دليلا قاطعا على كذب زعم الدوحة بأن قرار الانسحاب لم يكن لأسباب سياسية بل كان "لأسباب فنية واستراتيجية"، و"يعكس رغبة دولة قطر في تركيز جهودها على تنمية وتطوير صناعة الغاز الطبيعي"، فلو لم تتوفر الأسباب السياسية لما احتاجت الدوحة إلى كيل هذه الاتهامات للمنظمة، ولما أعلنت الانسحاب من الدوحة بدلا من أن تعلنه في فيينا، حيث مقر المنظمة، بعد التشاور مع أعضائها، ولما جاء في وقت تواجه فيه المنظمة ضغطا لزيادة إنتاجها، ولما اتخذ قبل أيام قليلة من الاجتماع الحاسم بين المنظمة وحلفائها لاتخاذ بعض القرارات التي من شأنها المساهمة في استقرار أسعار النفط عالميا، الأسباب السياسية هنا أيضا قد لا تكون بعيدة عن شعور الدوحة المتزايد بالعزلة مع استمرار المقاطعة العربية لها، ورغبتها في تقوية تحالفها البديل مع دول مارقة بدلا من العودة لمحيطها الخليجي والعربي، لذا كان طبيعيا أن تكون إيران هي أول المرحبين بالقرار القطري وأول المتفهمين له.
قطر التي أصبحت أول دولة شرق أوسطية تغادر "أوبك" قد لا يتوقف انسحابها من المنظمات الدولية عند هذه الخطوة، فسلوك النظام القطري أحادي الجانب تجاه هذه المنظمة واستخفافه بها وإهانته لها قد يصبح نهجا مميزا لهذا النظام في تعامله مع بعض المنظمات الإقليمية والدولية التي يرى أنها قد تعوقه عن تحقيق أهدافه، حتى لو كانت أهدافا غير مشروعة، وقد يصبح تكرار هذا الانسحاب أمرا واردا، وهنا أعتقد أن مجلس التعاون الخليجي قد لا يكون بعيدا عن المخططات القطرية الساعية لتقويض المنظمات الإقليمية التي تقف في وجه مخططاتها، وبالتالي قد يكون المحطة التالية للانسحاب القطري أحادي الجانب، فبعد أن حاولت قطر مرارا وتكرارا تقويض المجلس بخروجها عن أهدافه والعمل عكس قراراته، قد لا تجد بدا من الانسحاب منه على أن تبدأ بعدها حملة إعلامية منظمة لتشويهه والتقليل من دوره، توهما أنها بذلك سوف تهدم المعبد على الجميع، لكنها بهذا المسلك لا تحاصر إلا نفسها ولا تزيد إلا من عزلتها، متوهمة أنها بقرار الانسحاب من منظمة دولية مهمة ستظل محل اهتمام وستبقى في دائرة الضوء، وهو الأمر الذي عبر عنه بصدق وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش بقوله "إن البعد السياسي للقرار القطري بالانسحاب من أوبك إقرار بانحسار الدور والنفوذ في ظل عزلة الدوحة السياسية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة