الدوحة لم تترك مجالا وإلا حاولت إفساده، ولا دولة إلا وطالتها يد فسدتها ومفسديها، ولا صفقة فساد إلا وكانت طرفا أو شريكا فيها
يبدو أن الفساد في قطر أصبح أسلوب حياة ومنهجاً في الحكم، وطريقة في التعاطي مع كافة القضايا التي تكون الحكومة القطرية طرفاً فيها، رياضية كانت أم اقتصادية أم سياسية، فيوماً تلو يوم تتكشف فضيحة فساد جديدة بطلها النظام القطري، تارة في مجال الرياضة وتارة في مجال المال والأعمال، وتارة في مجال الحكم والسياسة، فلم تترك الدوحة مجالاً وإلا حاولت إفساده، ولا دولة إلا وطالتها يد فسدتها ومفسديها، ولا صفقة فساد إلا وكانت طرفاً أو شريكاً فيها.
لن يتوقف قطار الفساد القطري عند المحطة الباكستانية، فمحطة النهاية لم تأت بعد، فهناك جديد يتكشف كل يوم، من قبيل ما كشفت عنه مجلة "لوفيجارو" الفرنسية الأسبوع الماضي، في تقرير لها من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض خلال زيارته الدوحة نهاية 2017 الهدايا التي قدمها له تميم بن حمد
آخر صفقات الفساد القطرية التي أطلت برأسها في الأسابيع القليلة الماضية كان ضحيتها الشعب الباكستاني، وكان مجالها قطاع الغاز الطبيعي المسال، وكان بطلها كالعادة النظام القطري، وتمثلت فيما أعلنت عنه الحكومة الباكستانية من تفكيرها في إعادة التفاوض بشأن اتفاق الغاز الطبيعي المسال مع قطر، الذي أبرمته حكومة نواز شريف السابقة مطلع عام 2016 بقيمة 16 مليار دولار، وبموجبه تقوم الدوحة بتصدير الغاز الطبيعي المسال إلى باكستان لمدة 15 عاماً، ولإخفاء ما يتضمنه الاتفاق من فساد واضح تعامل النظام القطري معه على اعتباره اتفاقاً عسكرياً لا اتفاقاً تجارياً؛ حيث حرصت الدوحة أن يكون سرياً وألا يتم الإفصاح عن محتواه إلا بعد مرور ثلاث سنوات على انتهاء فترة الـ15عاما، أي بعد 18 عاما من توقيعه، وهو ما أثار حفيظة المجتمع الباكستاني وقواه السياسية، بعد أن تكشفت بعض بنوده، وتبين منها أن قطر باعت غازها لباكستان بأسعار مبالغ فيها جدا ولا تتلاءم مطلقاً مع أسعار السوق.
الأمر الذي دفع لجنة المنافسة الباكستانية، الجهة الرقابية الموكلة بمكافحة الاحتكار في البلاد، إلى مهاجمة الاتفاق بشدة، وأكدت أنه "غير شفاف"، وتضمن بنوداً غير واضحة، وقالت إن عدم الشفافية في الاتفاق تخلق انعداماً للثقة لدى المستهلكين النهائيين للغاز في باكستان، والذين سيدفعون سعراً باهظاً، لأن العقد يمنح الدوحة ميزة غير عادلة عبر بيع الغاز لإسلام آباد بأسعار مرتفعة مقارنة بما تحصل عليه الهند، وبما تحصل عليه باكستان نفسها من جهات أخرى، حتى في رسوم الميناء تتحمل شركة النفط الباكستانية وفقاً للاتفاقية مع قطر رسوماً أعلى من تلك التي تتحملها في المعتاد، وأوصت اللجنة في دراسة أعدتها لـ"تقييم المنافسة الخاصة بالغاز الطبيعي المسال" الحكومة الباكستانية بإعادة التفاوض على السعر مع قطر، وأيضاً إطلاع الجمهور على تفاصيل الصفقة.
الكشف عن بعض تفاصيل الاتفاق أزعج بالتأكيد نظام الحمدين وحكومته، لأنه سيفضح بهذه الصفقة أوجه الفساد، ففي أكتوبر الماضي أعربت الدوحة رسمياً عن انزعاجها من كشف تفاصيل بعض بنود الاتفاق، وأصرت على عدم كشف ما تبقى من بنود، ووقتها نقلت وسائل الإعلام الباكستانية عن مسؤول حكومي باكستاني بارز قوله "إن قطر ترفض اطلاع مكاتب المحاسبة والنواب في باكستان على بنود الصفقة"، بعد أن أرسلت شركة النفط الباكستانية الحكومية خطاباً لشركة قطر للغاز تبلغها فيه بأن العديد من أعضاء البرلمان في باكستان يمارسون ضغوطاً كبيرة للإفصاح عن كل بنود الصفقة، لكن قطر رفضت ذلك بشكل قاطع، بحجة أنه إذا تم الإفصاح عن البنود السرية للصفقة بشكل علني فإن ذلك سيضر بالمصالح الاقتصادية لقطر والبلدان المشترية في السوق.
لكن من سوء حظ الدوحة أن الحكومة الباكستانية الحالية بدأت حكمها بتعهدات قوية بمكافحة الفساد والقضاء عليه، وخاض رئيس الوزراء الحالي عمران خان الانتخابات بشعار رئيسي وهو "خلق باكستان جديدة خالية من الفساد"، ويؤمن بضرورة توفير "بيئة نظيفة لرجال الأعمال"، لذا أمر بفتح تحقيق شامل في هذه الصفقة المشبوهة التي تضمنت كل معاني "انعدام الشفافية"، الأمر الذي غالباً ما سينتهي بفسخ هذا الاتفاق المجحف لاستيراد الغاز من قطر.
التحرك الباكستاني المتأخر لم يكشف فقط عن فضيحة فساد جديدة بطلها النظام القطري وضحيتها شعب يعاني، لكنه ألقى أيضاً بظلال من الشك والريبة على أهم موارد الاقتصاد القطري وهو الغاز الطبيعي المسال وكيفية إدارته، فبعد أن كان رهان الدوحة كبيراً على هذا القطاع للتخفيف من أزمتها الاقتصادية وعزلتها السياسية جاءت قضية الفساد الجديدة لتلفت أنظار كافة المستوردين أو المهتمين باستيراد الغاز القطري، بأن إدارة هذا المورد لن تخلو أيضاً من فساد أصبح يسري في كافة شرايين الدولة القطرية، وصار نهجاً مؤسسياً في تعاملات الدوحة الخارجية، فقبل المحطة الباكستانية كانت يد الفساد القطرية وصلت لمؤسسة الرئاسة في فرنسا في فترة حكم ساركوزي، ومؤسستي الكونجرس والمخابرات المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومؤسسات شبابية في أستراليا وموظفين صغار في مطار جون كينيدي في نيويورك، ووقائع كثيرة لا يحصيها إلا كتاب ضخم متعدد الأجزاء.
بالتأكيد لن يتوقف قطار الفساد القطري عند المحطة الباكستانية، فمحطة النهاية لم تأت بعد، فهناك جديد يتكشف كل يوم، من قبيل ما كشفت عنه مجلة "لوفيجارو" الفرنسية الأسبوع الماضي، في تقرير لها من أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض خلال زيارته الدوحة نهاية 2017 الهدايا التي قدمها له تميم بن حمد، في خطوة فاجأت البروتوكول القطري، الذي اعتاد توزيع الهدايا الثمينة على ضيوفه ممن لهم مصالح معه، الأمر الذي سبب إحراجاً للنظام القطري، وما سيتم كشفه قد يكون أكثر خطورة وأعظم تأثيراً، فكل وقائع الفساد وسقطات الأخلاق القطرية التي يتم كشفها تباعاً ليست مجرد هفوات فرضتها ضرورة آنية، أو وقائع فردية غير قابلة للتكرار وإنما تعكس نسقاً سياسياً ونهجاً منظماً في التفكير وأسلوباً للحكم، وآلية لشراء الدعم والمواقف وطريقة في التعاطي مع أحلام وطموحات تفوق كثيراً القدرات والمقدرات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة