رغم كل ما يحيط بالعالم من أزمات اقتصادية فإن فوز الاقتصادي الليبرالي المتطرف (خافيير ميلي) برئاسة إحدى أهم دول أمريكا اللاتينية وهي الأرجنتين ألقى بظلاله على اقتصاديات العالم وسط ترقب لسياساته (المعلنة مسبقا) في هذا الشأن والتي تنطلق من أنه لا يوجد ما يسم
الرئيس المنتخب خافيير ميلي لا يمل من وصف نفسه بأنه (رأسمالي فوضوي) وهو لم يدخل معترك السياسة في بلده سوى منذ عامين وقد نجح في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية في الأرجنتين يوم الأحد الماضي.
بداية فإن سياسة الرجل الاقتصادية انطلقت من دعوته إلى (نموذج الحرية) في الاقتصاد حتى تعود الأرجنتين قوة عالمية وهي التي أرهقتها سنوات انعدام الأمن وتفشي الفقر والجريمة والركود واستحالة إيجاد وظائف للمواطنين وكذلك الديون المستعصية وانهيار قيمة العملة ورغبة أكثر من ٧٠% من الشباب في الهجرة.
اليوم وبعد انتخاب ميلي رئيسا فإنه ودون شك سيجد مقاومة اجتماعية من فئات عديدة لإصلاحاته المرتقبة حيث هناك نظام امتيازات تستفيد منها قلة قليلة من الأرجنتينيين .
خافيير ميلي ينطلق من سياسات اقتصادية يتصدرها خفض الإنفاق الحكومي وهو يرى أن هناك خمس مشكلات هائلة يعاني منها اقتصاد بلاده وهي التضخم والركود الاقتصادي وفرص العمل وانعدام الأمن والفقر، ويجمع المراقبون على أن فوز ميلي سيؤدي إلى تغيير جذري في عملية صناعة السياسات الاقتصادية داخل بلاده وإذا ما تحدثنا عن المشكلة الأولى والتي هي (التضخم) فإن الأرجنتين يتجاوز فيها التضخم الـ ١٤٠% وهنا تعهد ميلي بإزالة الضوابط على العملة وقيود الاستيراد ما سيؤدي بالتالي إلى مزيد من الضغط على (البيزو) ويجعل قيمته أقرب إلى قيمته في الأسواق غير الرسمية وهنا ستكون (الدولرة ) علاجا لمشكلة التضخم في البلاد وسترتاح الأرجنتين من مشاكل السيطرة على السياسة النقدية في البنك المركزي كما فعلت تسع دول أخرى جعلت الدولار هو العملة الرسمية لها حيث سيتم تسليم تلك السيطرة لبنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي ولن يعاني الرئيس المنتخب في هذا الشأن سوى من عدم إجماع الدعم الشعبي وكذلك بعض أعضاء الكونغرس لهذه الخطوة الي يريدها كثير من الأرجنتينيين والتي ستوصل إلى ضرورة طلب احتياطات نقدية دولية وضبط أوضاع المالية العامة والوصول إلى أسواق رأس المال.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكونغرس سيحتاج إلى تمرير قانون يجيز التحركات التي يريد خافيير القيام بها وحزبه لا يملك في الكونغرس سوى ٣٨ مقعدا من أصل ٢٥٧ وبالتالي فسيبحث عن تحالفات مع أعضاء ائتلاف المعارضة الرئيسي من يمين الوسط- ناهيك عن مواقف النقابات العمالية في الأرجنتين والتي لا يملك الرجل أو غيره من ساسة الدولة علاقات مميزة معها وخروجها في مظاهرات واحتجاجات اجتماعية تلوح في الأفق كل ساعة - لكن لابد للرئيس المنتخب من تقنين وسائل (الادخار والحيازة وكل المعاملات التي تتم بالدولار ) ثم الانتقال إلى ما يعرف بـ (نظام التبادل المزدوج) وهو استخدام العملتين المحلية والدولار في نفس الوقت وكل ذلك سيؤدي في رأي الرجل إلى الحد من دوامة ارتفاع الأسعار .
أما إذا تحدثنا عن (المشكلة الثانية) والتي هي هيكلة الديون فهنا لابد من تعامل ميلي مع صندوق النقد الدولي مجددا عبر موافقة الصندوق على تنفيذ خطة واضحة لحماية استقرار الاقتصاد الكلي للدولة وهو الذي وعد بإجراء أكبر التعديلات على الإنفاق الحكومي كما طلب صندوق النقد الدولي مسبقا وهو صاحب العبارة الاقتصادية التي تميز توجهه الاقتصادي وهي (أن كل ما يمكن أن يكون في أيدي القطاع الخاص سيكون في أيدي القطاع الخاص).
وهنا يرد السؤال عن العلاقة المرتقبة بين الدولة والمستثمرين الخارجيين فلا بد من الإشارة هنا أن الأرجنتين اضطرت سابقا إلى اللجوء للصين لمساعدتها في سداد صندوق النقد الدولي واليوم يعلن ميلي أنه يرفض التعاون مع الصين والبرازيل وروسيا لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وكذلك فإن الصين تفاجأت بدعوة ميلي خلال الانتخابات إلى قطع العلاقة معها لصالح العلاقة مع ما سماه خافيير بـ(الجانب المتحضر من العالم).. بينما تأمل روسيا أن تظل الأرجنتين ملتزمة بالتعددية القطبية والسياسة الخارجية المستقلة.
خافيير ميلي وهو على وشك أن يحكم بلدا يبلغ ناتجه المحلي ما يقارب الـ ٧٠٠ مليار دولار منطلقا من أحلام كبيرة بتقليص حجم نفوذ الدولة في الاقتصاد وكبح جماح التضخم وخفض عدد الوزارات الحكومية وإغلاق البنك المركزي خلال عام ونصف إلى عامين من ولايته وهو بات اليوم عازفا ومتراجعا عن الانضمام إلى مجموعة البريكس وبات شعب الأرجنتين ينظر إليه على أنه (ترامب)القادم إلى الأرجنتين في الـ ١٠ من ديسمبر المقبل حيث إرهاصات السياسات الاقتصادية الراديكالية والمصير المجهول المليء بالتخوفات والفوضوية الرأسمالية التي تحكم فكر الرجل والضبابية التي تواجه مسار بلد بحجم الأرجنتين تثقل على كاهله قبضة الأزمات الاقتصادية العميقة والمتكررة مع الخشية أن يكون كل ما وعد به الرجل (هراء مطلق) من شخص يفتقد إلى الخبرة ويميل نحو الأفكار المتطرفة مما يجعل الخطأ في تحديد السياسات الاقتصادية أمرا واردا في بلد تعرض لأزمات وحالات تخلف عن سداد الديون السيادية بالرغم من الاحتياطيات الهائلة من الموارد الطبيعية وهو اليوم يسير نحو نظام اقتصادي جديد مع رجل أصبح في المخيلة الشعبية الأرجنتينية بمثابة (ترامب) الذي بات طيفه بمثابة الحلم لشعب الأرجنتين من أجل إنقاذه بالرغم من النقيض الذي لا يجمعهما - أي أمريكا والأرجنتين-في أي توجهات اقتصادية أو سياسية.
قد ينجح صاحب الشعر المجنون (خافيير ميلي) في وضع شعب الأرجنتين على طريق السكة الأمريكية التي يطاردها النجاح دوما ولو عبر (الصدمات الاقتصادية )المؤلمة جدا التي قد تعيد الأرجنتين في العقد القادم إلى أن تكون قوة عالمية مجددا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة