ما الذي يشغل أكبر حيز من تفكير البشر في الأسابيع الأخيرة، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا؟
مؤكد أن أحاديث الحروب والصراعات العسكرية، باتت تتوارى، في مقابل تصاعد تلك الحرب التي أعلنتها الطبيعة على الخليقة، وتتمثل في ارتفاعات درجات الحرارة بصورة غير مسبوقة، حتى أن علماء الأرصاد الجوية قالوا إن شهر يوليو/تموز الجاري، قد سجل فوق كوكب الأرض، أعلى درجات حرارة، منذ أن وجدت تلك القياسات بالفعل.
ليس سرا القول إن درجات الحرارة تجاوزت الخمسين مئوية في عدد من دول الشرق الأوسط، وهو ارتفاع مخيف ترك أثرا واضحا على الحالة الاقتصادية والمزاجية للبشر، عطفا على الصحية، وناهيك عن أزمات توليد الكهرباء، وفي كل الأحوال فإن شعوب منطقتنا قد ألفوا سخونة الأجواء منذ زمان وزمانين.
أما المخيف بالفعل فهو أن تصل معدلات الحرارة إلى درجات قياسية في أوربا وأمريكا، بينما الكارثة البيئية التي تخلفها قياسات الحرارة المخيفة هذه، فقد وجدت في مكانين، سوف يؤثران سلبا على أزمة الاحتباس الحراري، وعلى منسوب البحار والمحيطات، حول الكرة الأرضية.. ما هما؟
الأول: تمثل في انجراف أكبر جبل جليدي على سطح الأرض بسرعة تزيد على 150 كيلومترا شهريا على طول ساحل القارة القطبية الجنوبية.
عن هذا الحدث المخيف صدر بيان من معهد أبحاث القطب الشمالي والجنوبي، يشير إلى أن هذا الجبل بدأ الانجراف النشط نحو بحر "ويدل" (خليج من المحيط المتجمد الجنوبي في أنتاركتيكا)، منذ بداية الشتاء، وذلك بعد أكثر من 30 عاما من الانفصال عن النهر الجليدي.
هذا الجبل المخيف، غالبا سوف يطفو بعيدا نحو الشرق خلف ممر "دريك" (جنوب أمريكا الجنوبية)، ويبدأ في الانهيار تحت تأثير التيارات المائية الأكثر دفئا.
مصير هذا الجبل الجليدي متوقع، إذ ليس أمامه سوى الذوبان تحت تأثير حرارة البحار والمحيطات المرتفعة، الأمر الذي حتما سوف يتسبب في حدثين خطيرين، الأول هو ارتفاع منسوب المياه بالنسبة لمستوى الأرض، ما يقود حتما إلى ظاهرة " النحر "، أي اقتطاع البحر من اليابس المزيد من المساحات، الأمر الذي يهدد بزوال عدد من كبريات المدن التاريخية في كافة قارات الأرض، ولن يتوقف الأمر عند قارة واحدة، أو قطاع جغرافي بعينه.
فيما الأمر الثاني موصول بقصة العواصف والأعاصير، وحدوث موجات التسونامي، وزيادة معدلات الأمطار المغرقة وتكرار الفيضانات القاتلة، وجميعها تتسبب في دمار غير مسبوق للكرة الأرضية وساكنيها.
هل هذه هي المرة الأخيرة التي سنشهد فيها مثل هذا الانفصال الجليدي عن الكتل القطبية؟
أغلب الظن لا، ذلك أن علماء ناسا كذلك يرصدون وجود شرخ كبير يمتد على طول أطراف المنطقة الجليدية، والذي كان مستقرا منذ نحو 35 عاما، لكنه بدأ يمتد إلى الشمال بسرعة تبلغ نحو ميلين ونصف الميل سنويا.
شرخ آخر يرصده العلماء على بعد أقل من 3 أميال من الشرخ السابق، وأطلقوا عليه اسم "شرخ هالوين"، والاسم يحمل دلالات الرعب في الداخل الأمريكي، إذ أن الشرخين معا يمكنهما أن يفصلا جبلا جليديا بطول 660 ميلا مربعا عن القطب الجنوبي، ما جعل عالم الجغرافيا والمسح البريطاني الشهير " دومنيك هودجسون "، المتخصص في منطقة القطب الجنوبي يشير إلى أن هذا التصدع يمكن أن يؤدي الى نهاية ما يعرف بـ"جرف برنت" الجليدي وانهياره بالكامل.
بحسب تقرير حديث لعلماء حركة "جرين بيس"، المهتمة بأحوال المناخ حول العالم، فإن حرارة القطب الشمالي ترتفع بمعدل أسرع مرتين من المعدل العالمي، مما يسبب ذوبانا ضخما لجليد الأقطاب، وفيما الجميع يعلم أن التغيرات المناخية تسخن هواء القطب الشمالي، يحدث الكثير تحت طبقات الجليد مما لا نفهمه جيدا، ويكاد يسبب مخاوف رهيبة من الغموض المثار من حوله".
ماذا عن روسيا والذي يجري فيها ومن حولها؟
عرفت روسيا عبر تاريخها الطويل بأنها مستقر وحاضنة الثلوج أمميا، ومن يطالع روايات كبار الكتاب الروس من تولستوي وديستوفيسكي، مرورا بجوركي وتشيكوف، يكاد يرتجف من برد الكلمات إن جاز التعبير...
لكن يبدو أن ارتفاع درجات الحرارة كوكبيا، لم يعد يقتصر على أي من البقاع أو الأصقاع، فقد استيقظ الروس الأيام القليلة الماضية على مشهد مثير وربما مخيف، يتعلق بأكبر حفرة في البلاد، تسمى حفرة" باتاجايكا"، وهي أكبر منخفض صقيعي في العالم، ليجدوا الثلوج فيها قد ذابت.
لا يتوقف المشهد في روسيا عند هذه الحفرة العملاقة، بل يتجاوزه إلى بقية بقاع وأصقاع روسيا، إذ يجزم علماء الأرصاد بأن درجة حراراتها ترتفع بوتيرة أسرع من بقية العالم بمرتين ونصف على الأقل.. ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخل، ذوبان الثلوج المتجمدة منذ مئات وربما آلاف السنين في روسيا، والتي تغطي نحو 65% من الأراضي الروسية، مع ما يصاحب ذلك من انطلاق غازات الاحتباس الحراري المخزنة في التربة الماضية قدما في الذوبان.
ما يجري فوق سطح كوكبنا الأزرق، من تغيرات بيئية ومناخية خطيرة للغاية، يستدعي وقفة إيمانية ووجدانية، فقد يكتب التاريخ أن هذا الجيل هو من تسبب في إهلاك الزرع والضرع، أو ربما يقال عوضا عن ذلك أنه من أنقذ مقدرات البشرية من الهول الذي كاد يلحق بها.
من هنا تأتي الأهمية الفائقة لمؤتمر المناخ" كوب -28"، القادم في أبوظبي، شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فقد يكون آخر فرصة قبل أن يسدل الستار على كوكب الأرض الراحل لا قدر الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة