بعد كشف الاتفاق السري.. قطر ولاية برقم 82 في عصمة الجمهورية التركية
البنود السرية لاتفاقية القاعدة العسكرية حملت مزايا غير مسبوقة لتركيا، وحولت قطر إلى ولاية تركية تحمل الرقم الـ82
شهدت العلاقات التركية القطرية تطورات كبرى في السنوات الأخيرة حتى تعدت ما يُمكن اعتباره تحالفاً استراتيجياً إلى هيمنة تركية كاملة على مفاصل الإمارة الصغيرة، وأعصابها الحساسة، وهو ما كشف عنه الاتفاق العسكري السري بين أنقرة والدوحة، والذي سربته مؤخراً قناة العربية عن أحد المواقع السويدية.
حصلت تركيا بموجب هذا الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية لها في مدينة "الريان" القطرية، وفقدت بفعلها الدوحة جانباً واسعاً من سيادتها، إضافة إلى استنزاف تركيا الثروة القطرية عبر توقيع تركيا وقطر في أغسطس 2018 اتفاقاً لتبادل العملة المحلية بين البلدين عند سقف 3 مليارات دولار ضمن حزمة مساعدات تُقدر بنحو 15 مليار دولار، في محاولة للتحايل على تراجع الاقتصاد التركي وانهيار سعر الليرة التي فقدت طوال الشهور التي خلت ما يقرب من 40 في المئة من قيمتها أمام الدولار، على خلفية أزمتها السياسية مع واشنطن قبل الإفراج عن القس الأمريكي برانسون في أكتوبر الماضي.
وتمثل القاعدة العسكرية التركية في قطر التي تم افتتاحها في مايو 2016، التطور الأكثر في محاولات أنقرة للتغلغل في المنطقة، لا سيما أنه أمر يحدث لأول مرة منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية. وبموجب هذه الاتفاقية ستضم القاعدة خمسة آلاف جندي تركي، مع العلم أنه يوجد في قطر مائتا عسكري بصفة مستشارين.
الهدف المعلن من إنشاء القاعدة التركية في قطر، التي جاءت في إطار الاتفاقية التي تم توقيعها بين البلدين عام 2014، وصادق عليها البرلمان التركي في يونيو 2015، كان التدريب العسكري المشترك، وتطوير القوات المسلحة القطرية، من خلال تدريبات مشتركة ودعم جهود مواجهة الإرهاب، إضافة إلى مكانية نشر متبادل لقوات برية تركية على الأراضي القطرية وقوات برية وجوية قطرية على الأراضي التركية.
لكن البنود السرية للاتفاقية كشفت عن أن القاعدة هي خطوة أولى نحو التمكين التركي في قطر التي تمثل بوابة عبور تستهدف من ورائها أنقرة النفاذ إلى عمق الجسد الخليجي، ومحاولة تفصيل المشهد على مقاس طموحاتها السياسية.
البنود السرية لاتفاقية القاعدة العسكرية حملت مزايا غير مسبوقة لتركيا، وحولت قطر إلى ولاية تركية تحمل الرقم الـ82. فبموجب الاتفاق يحق لتركيا إرسال قطع جوية وأرضية وبحرية إلى قطر دون تحديد أي عدد أو مستوى لهذه القوات، أو مدتها الزمنية. كما أن بنود الاتفاق لا يجيز اللجوء إلى أي طرف ثالث سواء كان دولة أو منظمة دولية من أجل فض المنازعات أو الخلافات التي يمكن أن تنشأ عنها، فضلاً عن أن جميع الجنود الأتراك الموجودين على الأراضي القطرية لا يخضعون للقانون القطري.
ثمة أهداف سعت تركيا لتحقيقها عبر قاعدتها العسكرية في قطر منها؛ خلق نفوذ عسكري في منطقة الخليج العربي، وبدا ذلك في موافقة البرلمان التركي في يونيو 2017، وعشية الأزمة الخليجية مع الدوحة، على نشر قوات في قاعدة عسكرية في قطر تطبيقاً لاتفاق دفاعي. كما هدفت أنقرة إلى استثمار وجودها عسكرياً في قطر كورقة ضغط ضد القوى الإقليمية والدولية الفعالة في منطقة الخليج لتحقيق مصالحها.
في المقابل ثمة هدف آخر يتمثل في إزعاج الأمن القومي العربي، خاصة المحور الخليجي المصري المناهض للتمدد التركي في الإقليم، والذي نجح في تحجيم نفوذ تركيا في أزمات الإقليم، وأقلمة أظافر تيارات الإسلام السياسي وكيل تركيا في المنطقة، والتي طالما سعت من خلالها إلى خلق أجندات سياسية مؤدلجة في المنطقة تعمل لحساب تنامي الدور التركي. وفي هذا السياق كان الدور الإماراتي بارزاً سواء في محاصرة نفوذ الإسلام السياسي أو تقليص النفوذ التركي في أزمات الإقليم، وبدا ذلك في نجاح الإمارات في العودة بسوريا إلى محيطها العربي بعد إعادة بعثتها الدبلوماسية إلى دمشق في ديسمبر الماضي.
كذلك وفر الوجود التركي عسكرياً في قطر، فرصة لعودة البحرية التركية إلى المحيط الهندي للمرة الأولى منذ خمسينيات القرن السادس عشر، فضلاً عن إمكانية استخدام القاعدة مستقبلاً مركزاً للعمليات التركية المستقبلية ما وراء البحار.
والواقع أن الوجود العسكري التركي في الدوحة وضع الإمارة المارقة تحت طائلة العزلة العربية، بسبب رضوخها لسياسات أردوغان التي تسعى إلى بناء محور يضم القوى المؤدلجة في المنطقة دون الالتفات لظروف المنطقة وواقع دولها. كما أن محاولات أنقرة لاستغلال قطر في صراعتها الإقليمية، فاقمت من تأزم العلاقات بين قطر ودول الخليج التي ترفض إقامة تركيا قواعد عسكرية على الأراضي القطرية.
وترفض الدول الخليجية ومعها القاهرة النفوذ العسكري التركي في قطر، والذي أخذ في النمو المطرد منذ وصول الأمير تميم إلى سدة السلطة، سيزيد حدة التدخلات الأجنبية في المنطقة، خصوصاً مع انكشاف مخططات أنقرة التي تسعى لاستثمار الوفرة المالية القطرية، واستغلال الضعف السياسي للأمير تميم، وتوجيهه لاتخاذ مواقف أكثر تطرفاً وعدائية لدول الخليج العربي وأكثر تقارباً مع طموحات أردوغان الباحث عن استعادة الإرث العثماني في المنطقة، خصوصاً بعد فشل المساعي التركية في اللحاق بالعائلة الأوروبية، ناهيك عن تراجع موقعها وموضعها في إقليم الشرق الأوسط بفعل تبنيها سياسات تدخلية في شؤون دول الإقليم.
ولذلك، فإن الوجود العسكري التركي في قطر يمثل للرئيس أردوغان تجسيداً لحلمه القديم بعودة بسط نفوذ أنقرة في الدول العربية، كما أنه يتيح تعامل أنقرة المباشر مع أزمات الخليج دون الرجوع إلى حلفائها في حلف شمال الأطلسي.
ولم تكن لتقتصر الأهداف التركية من وراء التغلغل العسكري في قطر على ما سبق، فقد سعت إلى استثمار موقع قطر كمنصة لتسويق سلاحها في المنطقة، والحصول على عقود تسليح الجيش القطري بعد تدريبه على استخدام السلاح التركي. كما استغلت أنقرة الأزمة الخليجية للحصول على المزيد من الأموال القطرية على شكل استثمارات وصفقات ضخمة أو هبات مالية لا تُرد، وذلك في مقابل توفير الدعم العسكري التركي لقطر الذي بات يصفه بعض المراقبين الدوليين اليوم بأنه أشبه بالاحتلال.
ملامح صعود الدور العسكري التركي في قطر، كشف عنه إعلان الرئيس التركي في 13 يناير الجاري، خلال مشاركته بفعالية حزبية للعدالة والتنمية بولاية صقاريا، أن أنقرة ستستمر في تعاونها مع قطر في مجال الصناعات الدفاعية والتجارة والسياحة والطاقة. وأضاف أنه سيتم وضع حجر الأساس لقاعدة (BMC) للإنتاج والتكنولوجيا بتركيا، بتمويل قطري، وأن هذه القاعدة ستتضمن مصانع عدة منها مصنع للدبابات وأخرى للعربات المصفحة والعسكرية.
ولم تكن هذه الخطوة التركية نحو استغلال المال القطري هي الأولى من نوعها، ففي أكتوبر الماضي، أعلنت تركيا تأسيس شركة صناعات دفاعية مشتركة مع قطر، في إطار نهج البلدين لتعزيز التعاون العسكري الثنائي بينهما. وقالت مؤسسة "أسيلسان" للصناعات الدفاعية التركية إن الشركة أطلق عليها اسم "برق" وتتخذ من قطر مقراً لها، موضحة أن تأسيسها جرى بالاشتراك مع كل من شركتي "برزان القابضة" التابعة لوزارة الدفاع القطرية و"SSTEC" التركية لتقنيات الصناعات الدفاعية.
والأرجح أن ثمة عوامل عدة وفرت بيئة حاضنة لنمو هذه العلاقة الاستثنائية في تاريخ العلاقات الدولية، وحفزت أنقرة للتقارب مع الدوحة: أولها توافر أوجه تشابه متعددة بين البلدين. فمثلاً الممارسة السياسية للحكم في البلدين تبدو متقاربة، فالنظام السياسي في قطر يشبه نظيره التركي، فمثلما يمتلك الرئيس أردوغان سلطة مطلقة في إدارة شؤون البلاد بموجب التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل 2017، يمسك الأمير تميم بجميع السلطات التي يدير من خلالها شؤون الدولة ويستطيع عبرها تحديد اتجاهات السياسة الخارجية. وهنا، ربما يمكن القول إن عملية صنع القرار في الدوحة مشابهة لتركيا، حيث تخضع في النهاية لتأثير الرئيس والأمير، باعتبارهما العمود الفقري للنظام السياسي.
وثانيهما إن السياسة الخارجية لكلا البلدين أنتجت خلال العقد الأخير أزمات مستمرة لكليهما مع محيطهما الإقليمي والدولي، خصوصاً أن أنقرة والدوحة دأبتا على التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وظهر ذلك بشكل لافت عشية احتجاجات الربيع العربي، حيث سعت أنقرة، ومن ورائها الدوحة إلى أدلجة الاحتجاجات، فكلتاهما تدعم تيارات الإسلام السياسي. ونجحت تركيا في دفع قطر نحو احتضان ورعاية جماعات الإسلام السياسي في بعض دول المنطقة، وتوفير أوجه الدعم المالي والإعلامي لها. ولم تكن لقطر الجرأة في معارضة المشروع التركي الذي يستهدف إحياء الخلافة العثمانية عبر المدخل الأيديولوجي، فمثلاً استغلت أنقرة منابر الدوحة الإعلامية ووفرتها المالية بعد اندلاع الاحتجاجات العربية لتسهيل المشروع التركي الخاص بدعم وصول جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة.
غير أن توجهات البلدين المؤلجة أدت إلى دخول العلاقة مرحلة الشحن بين قطر وجوارها الخليجي وعدد معتبر من دول المنطقة بفعل توجهاتها السلبية إزاء أزمات الإقليم، كما تراجعت المناعة الإقليمية والدولية لتركيا، حيث دخلت في صراعات لا تخطئها عين مع قوى إقليمية ودولية، في الصدارة منها القاهرة والإمارات والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
خلف ما سبق سعت تركيا إلى تعزيز تحالفها مع قطر ضمن سياسات تقوية مكانتها الإقليمية عبر استثمار مقومات قطر المالية والإعلامية، إضافة إلى إيجاد موطئ قدم أمني وعسكري داخل منطقة الخليج العربي. ويرتبط الاعتبار الرابع باستثمار تركيا علاقة قطر مع التنظيمات المسلحة، إذ حرصت أنقرة على مد جسور التواصل مع هذه الجماعات داخل سوريا والعراق، لتعظيم نفوذها ومواجهة خصومها من الأقلية الكردية.
وبرغم حرص أنقرة والدوحة على الترويج لمزاعم مشاركتهما في الحرب ضد الإرهاب، فإن ذلك لا ينفي أنهما أسستا علاقات وتوصلتا إلى تفاهمات مع تلك التنظيمات، خاصة جبهة النصرة. وفي هذا السياق، هدفت تركيا وقطر من وراء تقاربهما إلى التحايل على الاتهامات الموجه لهم بدعم التنظيمات المسلحة، إضافة إلى تعزيز نفوذهما داخل مناطق الصراعات.
في سياق متصل كان الاقتصاد أحد محفزات ومداخل تركيا لبسط نفوذها على قطر. فمعظم الاتفاقات التي وقعهتا الدوحة مع تركيا كانت تصب في مصلحة الأخيرة. فمثلاً تأسست العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الاستثمارات الضخمة من جانب الدوحة في الاقتصاد التركي، فقد بلغ حجم الاستثمارات القطرية في تركيا نحو 20 مليار دولار، حيث تُعد قطر ثاني أكبر دولة مستثمرة في تركيا. في المقابل نفذت الشركات التركية مشروعات في البنية التحتية القطرية بجوار أعمال استثمارية في قطاع الخدمات بنحو 15 مليار دولار، كما استوردت تركيا نحو 1,2 مليار متر مكعب من الغاز القطري المسال في عامي 2014 و2015، ثم وقّعت اتفاقية أخرى في ديسمبر 2015 لمد تركيا بالغاز بشكل منتظم وبأسعار تفضيلية.
في سياق متصل فازت شركات تركية بعقود تفوق قيمتها 13 مليار دولار في مشاريع البنى التحتية في قطر لها صلة بتنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2022. كما كانت قطر ملآذ أنقرة للتحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها منذ أغسطس الماضي، وفرت البحبوحة المالية القطرية لأنقرة احتياجات كبيرة من النقد الأجنبي تلزم لتمويل الواردات من الطاقة أو لسداد الدين العام.
خلاصة القول إن الوجود العسكري التركي في قطر يمثل في جوهره انتقاصاً من السيادة القطرية، ويوفر في المستقبل بيئة اجتماعية وسياسية قلقة في الدوحة، لاسيما أن الوجود العسكري لتركيا داخل قطر بدأ يأخذ أبعاداً متطورة، في الصدارة منها محاولات تتم من وراء ستار لإدماج الجنود الأتراك داخل النسيج الاجتماعي القطري، وهو الأمر الذي يفتح الباب واسعاً حول طبيعة الدور العسكري التركي والوظيفة التي يلعبها الجنود الأتراك في قطر.
aXA6IDMuMTQ1LjU3LjQxIA== جزيرة ام اند امز