ما يحدث في السودان مؤخرا يحتمل كثيرا من التأويل والقراءة على شتى الاتجاهات، خاصة السياسية والعسكرية والاجتماعية.
فمحاولة فهم أحداث الواقع في أي بلد تصبح غامضة إذا ما عزلناها عن تراثها وماضيها، وبالتالي فالحالة السودانية ستكون مفهومة إذا ما رجعناها إلى مراحلها السابقة، خاصة التي تلت الاستقلال عن بريطانيا، وهي المرحلة، التي كانت تتشكَّل فيها الدولة وتُرسم ملامحها.
لم يمض سوى عام واحد على الاستقلال حتى جاء واقع جديد قاده مجموعة من ضباط الجيش بقيادة إسماعيل كبيدة.
بعدها توالت التغييرات السياسية على نفس النهج حتى جاء "جعفر نميري" إلى الحكم منذ عام 1969 حتى 1985.
في عام 1989، قاد العميد -وقتها- عمر البشير "انقلابا" ضد الحكومة المدنية برئاسة الصادق المهدي، وشهدت هذه الفترة صعودا غير مسبوق للإسلاميين من وقتها هناك، وبدا ذلك في حصدهم 51 مقعدا برلمانيا، واحتلوا المرتبة الثالثة بعد الحزب الاتحادي، 63 مقعدا، وحزب الأمة، 100 مقعد، والذي كان الصادق المهدي، يرأسه حينها.
واستمر حكم "البشير" حتى عام 2019، حيث أطاحت انتفاضة شعبية استمرت أشهرا بنظامه، ليأتي مجلس عسكري ويقود مرحلة انتقالية.
من وقتها أصبح المكون العسكري، الذي ساند ثورة السودانيين، شريكا حقيقيا مع المكون المدني، المتمثل في "قوى الحرية والتغيير"، وتم توقيع وثيقة دستورية ضامنة لذلك في أغسطس 2019، تقسم قيادة الفترة الانتقالية بين المكون العسكري، الذي تولى قيادة مجلس السيادة، على أن يتم تسليم السلطة لشخصية مدنية بعد ذلك.
وعلى مدار عامين ماضيين ظهر السودان كأنه يغير جلده ويتخلص من إرثه القديم.. وسط متغير آخر شهده السودان، هو توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020 بين الدولة السودانية حكومة ومجلسا سياديا من طرف، وبين الفصائل المسلحة من طرف آخر.
وفي يوليو 2020 أعلن الجيش السوداني إحباط محاولة "انقلاب" استهدفت الإطاحة بالمجلس السيادي، واعتُقل على أثرها 12 ضابطا، وبعد أيام قليلة، اعتُقل رئيس أركان الجيش، هاشم عبد المطلب أحمد، الذي وُصف بأنه "قائد ومخطط محاولة الانقلاب".
وفي سبتمبر 2021، أعلنت الحكومة السودانية إحباط محاولة "انقلاب" اتهمت فيها ضباطا ومدنيين مرتبطين بنظام "البشير"، لكن سرعان ما تمت السيطرة على الأمور وألقي القبض على الضباط، البالغ عددهم 22، بقيادة اللواء الركن عبد الباقي الحسن عثمان، بالإضافة إلى ضباط صف وجنود ومدنيين، فيما سيطرت القوات المسلحة السودانية على الأوضاع في زمن قصير دون خسائر في الأرواح أو الممتلكات.
مع كل حدث من هذه تعود التوترات بين المكونات السودانية وتزداد تعقيدا، فواقع السودان الحالي هو ابن الماضي وثمرته، قوى مدنية أو عسكرية، وذلك على مدار ثلاثين عاما من حكم "البشير" بكل ما حملته تلك المرحلة من مبادئ إخوانية غارقة في الجهل وتقسيم المجتمع وتجريف النخب.
الأزمة في السودان ليست في مَن يحكم الآن بقدر ما هي في محاكمة التراث القديم، وعمل مراجعات للسبعين سنة الماضية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة