لم تشهد القضية السورية هذا العام أي تحرّكٍ ملموسٍ من شأنه أنْ يحيي العملية السياسية التي باتت في سباتها أكثر من عامٍ.
وعلى الرغم من أنّ القضية السورية دخلت عقدها الثاني من دون أي قراراتٍ أممية أو دوليّة مُلزِمة، ولكنها كانت على الأقلّ في السنوات الماضية تتناوبُ على قائمة الملفات الأكثر حضوراً على ساحات السياسة العالمية، فهل هذا الصمتُ حالةٌ عابرة؟ أم أنّ وراء الأكمة ما هو أكبر وأخطر؟
في الحقيقة ليس من اليسير الإجابة عن هذا السؤال؛ لأنّ المعطيات على الأرض ميدانياً وسياسياً مفتوحة على كل الاحتمالات، ولكن مما لا شكّ فيه، أنّ هذا الصمت ليس أمراً طبيعياً أو مجرد تأجيل تحت وطأة ملفاتٍ أشد سخونة، لا سيّما وأنّ السياسة الدولية منذ زمنٍ طويلٍ وهي تأخذ سمة العالمية، وملفات القضايا العالقة لا تُهمل استجابةً لملفات أكثر خطراً، وهو ما يدعونا إلى مقاربةٍ تسبر أغوار السياسة الدولية بعيداً عن السطح الذي يربطُ الملفات العاجلة بالملف السوري، وهذه المقاربة ستكون على صعيدين:
أولاً: الصعيد المحلي: فعلى الصعيد المحلي لا يخفى على أحد أنّ اللاعبين على الأرض السورية كثر، وأنّ الفرقاء السوريين كُثُر أيضاً، ولكن ليس هذا الأمر السبب الوحيد لهذا التعقيد للمشهد السوري المسكوت عنه منذ أكثر من عامٍ، إذ يتعلق الأمر أيضاً بواقعٍ معيشٍ دام لأكثر من سبع سنواتٍ، واقعٌ بات التقسيمُ هو عنوانه، وبإدارات ثلاث، وكل إدارةٍ تسيطر على مساحة كبيرة وموارد اقتصادية وبشرية لا يستهان بها، وتتحالف مع دول إقليمية ودولية لها مصالحها وأجنداتها المتشابكة، ثم أنّه يتضح وكأنّ الفرقاء السوريين قد دخلوا خانة اليأس والاستكانة لهذا الواقع، ولسان الحال يقول إنّ هذا أفضل من خسارة كلِّ شيءٍ، الأمر الذي قد يكرّس هذه الحالة من التقسيم والتشرذم للميدان السوري، ثمّ إنّ الواقع الاقتصادي المتردي يجعل كلّ طرفٍ من الأطراف مرتبطاً عضوياً وليس فقط سياسياً مع الأطراف الدولية الداعمة له؛ لأنّ التخلي عن أهداف ومصالح الحليف يعني فقدان غطاءً اقتصادياً وإن كان رقيقاً إلا أنّ فقدانه يعني الانهيار التام، عدا عن فقدان الغطاء السياسي اللازم للاستقرار الجزئي وإن كان لا يلبي إلا أدنى مقومات التوازن مع الأطراف الأُخرى.
ثانياً: الصعيد الدولي: الساحة السورية باتت ملعباً دولياً عامّاً؛ إقليمياً وعالمياً، إلا أنّ الأطراف الدولية الأكثر حضوراً وظهوراً فعلياً على الساحة السورية، تنحصر بأربع دول هي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، ولكلّ دولة منها حضورها المتناسب مع مصالحها وقوة نفوذها إقليمياً وعالمياً، فالولايات المتحدة يريحها هذا الوضع القائم من حيثُ تعدد الأوراق الضاغطة على جميع الأطراف الدولية مثل روسيا وتركيا وإيران من جهة، ثم إنّ حلفاءها يسيطرون على أغنى موارد البلاد النفطية والزراعية.
أما روسيا وبسبب انشغالها بحرب أوكرانيا باتت أقل حضوراً على الساحة العسكرية، مكتفيةً بدعم الحكومة السورية المعترف بشرعيتها دولياً، وبوضع يدها على الموانئ التي هي منفذ سوريا الوحيد إلى العالم الخارجي، وهو أيضاً نقطة نفوذٍ اقتصاديٍّ وسياسي يؤمن القدر اللازم من التوازن مع الولايات المتحدة.
أما تركيا فتحاولُ دائماً التوسع ولكنّ لسان الحال يقول بأنّ ما تم اجتزاؤه من الأرض السورية ليس بالقليل ولا بدّ من المحافظة عليه من دون مغامرات سياسية وعسكرية، والطرف الآخر هو إيران التي تستندُ إلى الدعم الروسي غير المباشر، وذلك من خلال تداخل الملفات السياسية والعسكرية والنفوذ مع الحكومة السورية من جهة والتزام إيران بمصالح روسيا في سوريا من جهةٍ ثانيةٍ، والمراوحة بالمكان تجنباً لأي صداماتٍ مباشرةٍ مع الأطراف الدولية الفاعلة على الأرض، ما من شأنه فقدان ما تم وضع اليد عليه.
كل ذلكَ يجعل الصمت السائد في الملف السوري مُرضياً إلى حدٍّ ما مع واقع القوى وتشابك الملفات؛ سواء للفرقاء السوريين أو للأطراف الدولية الفاعلة، ولكن هذا لا يعني بأنّ هذا الصمت إيجابياً، وإنما على العكس، فهذا الصمت لا يقل خطورةً على سوريا من المواجهات العسكرية الساخنة من حيث النتائج طويلة الأمد، فإذا ما استمر فترةً أطول، فإنّ أبرز ما يُخشى من نتائجه أنْ يصبح التقسيم واقعاً مفروضاً يلقي بظلاله ليس على سوريا وحدها وحسب، وإنما قد يصبح مشروعاً قائماً يُصدَّرُ إلى الخارج، مما يعني بأنّ الصمت ليس حالةً عابرةً، وإنما قد يكونُ مذبحاً تُساقُ إليه سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة