المتابع للمشهد السوري وما يجري في إدلب من مواجهاتٍ خطيرة يدرك أبعادَ غياب الدور العربي
المتابع لصوت قرقعة السلاح المتصاعد ساعة بعد ساعة في الشمال السوري، وبالتحديد في محافظة إدلب وحولها، سيسأل سؤالاً واحداً: مَنْ سيقع في مصيدة إدلب ومَنْ سينجو منها؟
ليس من قبيل المبالغة القول إن أيَّ خطأ غير محسوب في هذه البقعة السورية البائسة إنسانياً، سيتحول على الفور إلى حرب شاملة بين روسيا وحلفائها من ناحية، وتركيا التي لا تزال تمتلك أكبر ثاني جيش في حلف الناتو.
المتابع لتطورات الوضع الميداني في إدلب، منذ أن أخذ الجيش السوري قرار استعادة مناطق ريف حلب والطريق الدولي (M5)، وإكمال طريقه نحو إدلب وسيطرته على نقاط استراتيجية في ريفها، سيصاب بالدهشة من "وقاحة" تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفجاجتها، وكأن الجيش القادم لاستعادة السيطرة على تلك المناطق جيش غازٍ لأراضي تركيا، وكأن إدلب ليست بقعة سورية، وأهلها والنازحون إليها لا يحملون الجنسية السورية.
المتابع للمشهد السوري وما يجري في إدلب من مواجهاتٍ خطيرة يدرك أبعادَ غياب الدور العربي، صراع مصالح يطال البشر والأرض تخوضه الدول، وكأن العالم العربي مشاع أو فضاء لطموحِها ولامتدادِها الاستراتيجي
أردوغان لم يترك مناسبة دون تهديد وتوعد الجيش السوري برد عنيف إذا ما استمر في تقدمه، وذهب أبعد من ذلك بإعطائه مهلة حتى نهاية الشهر الجاري لعودة الأمور إلى ما كانت عليها قبل بدء الهجوم، وإلاّ فإن جنوده العشرين ألفاً المدججين بكل أنواع السلاح الذين حشدهم على تخوم المنطقة سيقومون بهذه المهمة. وأكثر من ذلك لم يترك مناسبة إلاّ وغمز من قناة الأوروبيين بطريقته الابتزازية المعهودة بأنه سيفتح الحدود أمام موجة جديدة من النازحين باتجاههم، إن لم يتلقَ دعمهم.
روسيا من ناحيتها، أكدت أن أي عودة للوراء غير واردة في حساباتها وحسابات حليفها السوري، مبررة ذلك بالتأكيد على أحقية الحكومة السورية باستعادة سيطرتها على كامل أراضيها شرعاً وقانوناً والقضاء على التنظيمات الإرهابية في المنطقة، واتهمت نظام أردوغان بأنه ماطل بما يكفي في الإيفاء بالتزاماته المتعلقة بتفاهمات أستانة وسوتشي وفصل المعارضة السورية المتشددة عن المعتدلة.
الواضح على الأرض أن تركيا استغلت تلك التفاهمات لإرساء حالة من الهدوء تستطيع من خلالها التقاط أنفاسها وتجميع أوراقها، ومن ثم إعادة تسويقها إقليمياً وعالمياً عبر إزالة صفة "الإرهاب" عن بعض هذه التنظيمات، خاصة جبهة النصرة، وهو ما لم تفلح به حتى الآن.
وفي المعلومات أن تركيا عندما حاولت تقليم أظافر جبهة النصرة وزعيمها الجولاني ومن لفّ لفهم من التنظيمات المتشددة، احتكت بقطر عرّاب الإخوان المسلمين العربي ورأس حربتهم المالية والإعلامية، حيث منعت أنقرة الدوحة من إيصال أي نوع من المساعدات أو الأسلحة لهذه التنظيمات إلا عبرها، وكانت تمدها بهذا الدعم حسب مقتضيات مصالحها بين فتح "الحنفية" عليها أو تخفيفها و أحياناً تجفيفها تماماً، ما جعل الكثيرين من المحسوبين على التيار الإخواني يقذفون تركيا بأقذع الأوصاف ويشتمونها ويصرحون بأنها باعتهم في السوق الروسية.
مناورة تركيا الكلامية والسياسية اليوم في إدلب بالتأكيد لها أبعاد داخلية وإقليمية ودولية. أما الشق الداخلي فيتعلق باتساع رقعة المناوئين لسياسات أردوغان وحزب العدالة والتنمية عموماً، بعد التوسع أكثر في انتهاج سياسة التطهير بحقهم، سواء بالاعتقال أو الإبعاد عن العمل، والذريعة الدائمة الانتماء لتنظيم "غولن".
وإقليمياً، تؤكد كل المؤشرات أن تركيا باتت في أزمة حقيقية بسبب دخولها الفج على الملف الليبي ودعمها العسكري لحكومة السراج في طرابلس، وهو ما انتقل من مرحلة الإحراج إلى مرحلة الصداع الدائم لأنقرة، خاصة أن التقارير الدولية تميط اللثام يوماً بعد يوم عن شحنات الأسلحة والمعدات العسكرية المتنوعة والمقاتلين الأجانب التي تصدرها إلى ليبيا، ضاربة عرضة الحائط بكل التحذيرات الدولية من هذا السلوك.
وفي السياق الليبي أيضاً، معروف أن موسكو شريكة أنقرة في التفاهمات حول سوريا، هي خصم كامل لها في ليبيا، حيث تقف منها موقف النقيض تماماً، لذلك ربما أرد أردوغان الهروب نحو التصعيد في إدلب علّ ذلك يساعده في إبرام صفقة مع موسكو في ليبيا.
أما دولياً، فللمرة الأولى ييدو بوضوح أن هناك من يدفع بالأطراف جميعاً نحو "المصيدة الإدلبية". وبدا ذلك جلياً بعبارات تشجيع تركيا وتصليب موقفها الصادرة عن واشنطن، وبعبارات الخشية التي تبديها أوروبا من موجة لاجئين جدد إليها جراء الحرب، وتريد أن يبقى أردوغان حارساً لسواحلها.
أما دوافع واشنطن فغير خافية على أحد، لأنها في هذه الحرب المحتملة الوقوع ستستنزف الطرفين معاً؛ روسيا عبر إسقاطها في مستنقع يعيد بالذاكرة الى المستنقع الأفغاني الذي سقط فيه سلفها الاتحاد السوفيتي في ثمانيات القرن الماضي، وبالتالي تتخلص من إزعاجاتها هنا وهناك، وتُسقط بالضربة القاضية تفاهماتها مع تركيا التي قطعت شوطاً بعيداً واضطرتها في كثير من الأحيان الى تقديم تنازلات لها، كما حدث في ملف الأكراد شرقي الفرات، وبالتالي تعيد أردوغان الى حظيرتها بعد إنهاكه وتقطيع كل سبل عودته إلى موسكو.
أما أوروبا فيبدو أنها مستعدة لتقديم تنازلات مهمة لأردوغان في إدلب مقابل إبرام صفقة معه في ليبيا.
وإزاء كل هذه المعطيات المتشابكة تبدو المصيدة الإدلبية قد نُصبت بإحكام، ومن شأنها أن تؤدي أكثر من غرض لأكثر من لاعب إقليمي ودولي، وعلى النظام التركي أن يدرك جيداً أنه محتل أراضي الغير بكل الصيغ القانونية والدولية، واحتلاله زائل لا محالة، وإن كان يشعر بالإجحاف من نتائج الحرب العالمية الأولى التي أسقطت الدولة العثمانية عليه أن يتأكد أن الزمن قد تجاوزها تماماً، وإلاّ سيقع بالخطيئة نفسها التي وقع فيها الزعيم النازي أودلف هيتلر، وكانت نتيجتها حرباً عالمية ثانية كلفت العالم عشرات ملايين القتلى وتدمير مئات المدن.
وإزاء كل النتائج الوخيمة التي تنتظر الجميع جراء السقوط في المصيدة الإدلبية أيضاً، فإن الأرجح أن تسفر الأيام المقبلة إلى صفقات جديدة تسحب فتيل الأزمة. وهنا لا بد من التأكيد على الحضور العربي في هذه الأزمة، الذي استشعرته دولة الإمارات، وعبرت عنه على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، حيث حذر في تغريدة له على "تويتر" من غياب الدور العربي في سوريا، وقال: المتابع للمشهد السوري وما يجري في إدلب من مواجهاتٍ خطيرة يدرك أبعادَ غياب الدور العربي، صراع مصالح يطال البشر والأرض تخوضه الدول، وكأن العالم العربي مشاع أو فضاء لطموحِها ولامتدادِها الاستراتيجي، وعودة الدور العربي لمواجهة تحديات الأمن العربي أصبح أكثر من ضرورة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة