لم يعد بمقدور تلك الفصائل القيام بأي دور لإعادة ترتيب أوراقها وأولوياتها بعد الآن لأنها أساساً تفتقد الرؤية الاستراتيجية والاستقلالية
رهنت الفصائل السورية المسلحة وجودها، حاضراً ومستقبلاً، وكذلك خياراتها بالكامل للسيد العثماني، واندمجت مؤخراً تحت اسم " الجيش الوطني السوري" بترتيب الاستخبارات التركية وأوامرها، وفقاً للدور الذي رسمته تلك الدوائر لها، وشاركت فصائل منها في جميع "غزوات" أردوغان بدءاً من درع الفرات مروراً بغصن الزيتون وصولاً وليس انتهاءً، ربما، بعملية نبع السلام، المعطيات هذه تفصح عن أن الأمر أشبه ما يكون بعملية تطوع من قبل تلك التشكيلات المسلحة في جيش أجنبي مع كل ما يفرضه ذلك من انصياع تام، ليس لأوامر قادتهم ورؤسائهم فحسب، بل والانصياع المطلق في تنفيذ الأجندات التي تحقق أهداف سادتهم العسكرية والسياسية.
بعد أن يستثمر أردوغان تلك الفصائل في حروبه ونزعاته التوسعية ومقايضاته السياسية، سيتركهم أمام واحد من خيارين؛ فإما أن يندمجوا ويذوبوا في مجتمعاتهم الجديدة الغريبة عليهم عبر صفقة سياسية تنزع عنهم صفتهم العسكرية، وإما أن يتركهم نهباً لصراع مع أصحاب الأرض التي هجروهم منها، مع ترجيح احتمال وقوف دمشق في مواجهة تلك الفصائل
كيف أمكن لعدد من الفصائل التي وصل الحال بينها سابقاً إلى إراقة بعضهم دماء بعض بفعل خلافات وانقسامات داخلية حادة من أن يتوحدوا في ظل التركي؟ لماذا يتوحدون بقرار من أنقرة؟ ألم يكن أردوغان طرفاً رئيسياً في جميع عمليات المساومة التي أفضت إلى المقايضات الكبرى بإخراجهم "بالباصات الخضر" من شمال وجنوب وغرب وشرق سوريا بأسلحة فردية خفيفة؟ ما المغريات التي دفعتهم للتحول إلى مطية ورأس حربة لمشاريع ونزعات أردوغان التوسعية؟ ما المكاسب التي وُعدوا بها؟ وعليه؛ ألم يسألوا أنفسهم لماذا تم تجميعهم في تلك البقعة الجغرافية وتحديداً على الحدود السورية التركية وهم من مدن سورية عدة؟ أم أن الاستخبارات التركية نجحت في الاستحواذ على تلك الفصائل السورية المسلحة وأخضعتها بعد أن أفقدتها مقومات وجودها وسلبتها إرادتها واستقلاليتها؟ هل يعتقد أولئك المسلحون أن إعادة تأهيلهم وتدريبهم على يد الجيش التركي ستحقق لهم أهدافهم داخل سوريا؟ ألم يتعظوا من تجاربهم السابقة مع أردوغان، وتلك الماثلة حاليا أمام أعينهم في إدلب؛ وكيف يقامر بالمسلحين الذين كانوا حتى الأمس غير البعيد برعايته كما يدعي؟
لا يمكن إنكار ما حققه أردوغان من أهداف خاصة على حساب دم السوريين، فالمسلحون المنضوون اليوم تحت يافطة "الجيش الوطني" كانوا وقود معاركه وعدوانه على الشمال السوري، وهم الذين ينفذون ما هو أخطر من العمليات العسكرية، أي عمليات التغيير الديموغرافي التي يرسمها ويخططها سيدهم التركي ضد السكان الأكراد السوريين الموجودين في مدنهم وقراهم، وباتوا يحلون محلهم في المنزل والأرض والديار دون الاكتراث بما ينطوي عليه الأمر من تبعات ومخاطر على السلم الأهلي والاجتماعي، وهو أحد الأهداف التي يسعى أردوغان لتحقيقها استراتيجياً بحيث يضرب عصفورين بحجر واحد؛ الأول تهجير السكان الأكراد من المدن والبلدات الشمالية السورية المحاذية لحدوده الجنوبية بيد مسلحين سوريين من تلك الفصائل التابعة له ومن ثم القول إن حدوده الجنوبية باتت آمنة ومحروسة من قبل سوريين موالين له، والثاني التخلص لاحقا من تلك التشكيلات المسلحة وأعبائها الأمنية والمادية تدريجيا بعد أن أطلق يدهم للاستيلاء على أراضي السكان المهجرين وأرزاقهم وباتوا يديرون مصالحهم وينتجون ثرواتهم.
قد تبقى تلك الفصائل المسلحة السورية ضمن معادلة الصراع والحسابات لأجل مسمى إلى أن يحقق التركي أهداف مشروعه في الشمال السوري، ولكن ضمن مسار محدود المخارج والآفاق، بيد أنه من الصعوبة بمكان أن تكون قادرة أو مؤثرة في عملية تغيير موازين القوى سياسياً نظراً لارتهانها لطرف خارجي واحد خذلهم في منعطفات سابقة في مواجهة قوى إقليمية ودولية تقف إلى جانب دمشق سياسياً وعسكرياً.. علاوة على ذلك لم يعد بمقدور تلك الفصائل القيام بأي دور لإعادة ترتيب أوراقها وأولوياتها بعد الآن لأنها أساساً تفتقد الرؤية الاستراتيجية والاستقلالية، فراهنهم ومستقبلهم بات في قبضة سيدهم التركي، وما يراه متسقاً مع أهدافه يمثل الخط الأوحد لمسيرتهم..
بعد أن يستثمر أردوغان تلك الفصائل في حروبه ونزعاته التوسعية ومقايضاته السياسية، سيتركهم أمام واحد من خيارين؛ فإما أن يندمجوا ويذوبوا في مجتمعاتهم الجديدة الغريبة عليهم عبر صفقة سياسية تنزع عنهم صفتهم العسكرية، وإما أن يتركهم نهباً لصراع مع أصحاب الأرض التي هجروهم منها، مع ترجيح احتمال وقوف دمشق في مواجهة تلك الفصائل.
استمرار الصراع، في سوريا وحولها، يمنح الفصائل المسلحة مزيداً من الوقت للبقاء بإمرة أردوغان إلى حين تبلور تسوية سياسية تفرضها الدول الكبرى، مع الأخذ بعين الاعتبار دور التحولات والتفاهمات الدولية وتأثيرها على جميع الأطراف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة