عندما أراد دوروف وشقيقه في عام 2014 التواصل بعيداً عن الرقابة فكّرا في إنشاء منصة تليغرام التي بُنيت بطريقة تحمي الخصوصية وتوفر الأمان للمتواصلين وفي الوقت نفسه بعيداً عن مراقبة المنصات الأخرى.
وعندما سقطت المنصات الكبرى الأخرى التي يستخدمها مئات الملايين في كل أنحاء العالم في فخ التنصت والاختراق وإتاحة المعلومات والبيانات الخاصة لطرف ثالث، انتقل الملايين الى تطبيق تليغرام بحثاً عن الخصوصية، ولضمان حماية بياناتهم ومعلوماتهم الشخصية.
ما يميز منصة تليغرام -التي يقترب عدد مستخدميها من المليار شخص- أنها لا تفرض قيوداً على المستخدمين كما لا تكشف بياناتهم، وهذا ما يعطي مساحة حرية أكبر لمستخدميها مقارنة بالمنصات الكبرى الأخرى.
وبلا شك أن هذه الميزة تعتبر سلاحاً ذا حدين، فهي تخدم المضطهدين في العالم والمتطلعين إلى التعبير عن رأيهم بكل حرية وأمان، وفي الوقت نفسه هي تسمح للمجرمين والذين يبحثون عن المناطق المظلمة في العالم الافتراضي ليقوموا بعملياتهم الإجرامية وغير القانونية.
فلِمن يستخدم تليغرام يبدو واضحاً أنها تستخدم طريقة مختلفة في إدارة المحتوى، وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تسمح باستغلال المنصة بطريقة سيئة وشريرة أحياناً، فإنها في الوقت نفسه لها إيجابيات واضحة وكبيرة، ما جعلها الخيار الأول للمضطهدين في المناطق الساخنة ومع الأنظمة التي تفرط في الاضطهاد.. ويبقى الأمر الأهم في استخدام أي منصة هو أن الناس تبحث عن الحقيقة وتريد أن ترى وتسمع الحقيقة بعيداً عن الانحيازات السياسية والأيديولوجية وبعيداً عن مواقف القائمين على المنصات.
أول ما يتبادر إلى الذهن بمجرد الإعلان عن اعتقال مؤسس المنصة والمدير التنفيذي لتليغرام بافيل دوروف عند هبوط طائرته في مطار باريس لو بورجيه هو أن حرية الرأي والتعبير وحماية الخصوصية أصبحتا في خطر، وهو ما يهم كل من يعمل في المجال الحقوقي... "فحتى تثبت التهم الموجهة إلى دوروف" على العالم أن يدافع عن هذه القيم التي أصبحت فعلياً في خطر وأصبحت بحاجة إلى عمل أكبر للمحافظة عليها.. وما قاله إيلون ماسك معلقاً على اعتقال دوروف "ليس من المستبعد أنه بحلول 2030 سيتم إعدام الأشخاص في أوروبا بسبب إعجابهم بالرموز الساخرة" لا يبدو ساخراً بل قد يكون بشكل أو آخر حقيقة في وقت ليس بالبعيد!
وهذا الاعتقال يدفع لطرح تساؤلات كثيرة، فهل المنصات الأخرى تمتثل لطلبات السلطات الرسمية بتقديم المعلومات الخاصة وتنتهك خصوصية المستخدمين؟ وهل المنصات الأخرى غير متورطة في الأنشطة التي تتهم فرنسا تليغرام بها؟ وإلى أي مدى يمكن أن تحافظ المنصات على استقلاليتها وحياديتها وعدم تدخل الحكومات في عملها؟
القضاء الفرنسي أفرج عن مؤسس تليغرام بعد أيام من حبسه على ذمة التحقيق، وذلك مع منعه من السفر وبدفع كفالة مالية كبيرة -5 ملايين يورو- بعد أن اعتقله الأمن الفرنسي بتهم من بينها رفض "تليغرام" التعاون مع سلطات البلاد، ما يجعل دوروف متورطاً في عدد من الجرائم منها الاتجار بالمخدرات والجرائم ضد الأطفال والاحتيال.
تليغرام من جهتها أكدت بعد اعتقال مؤسسها أنه ليس لديها ما تخفيه وأنها لم ترتكب أي مخالفة وأنها ملتزمة بأنظمة وقوانين الاتحاد الأوروبي، وقالت في بيانها الرسمي: "نحن نلتزم بقوانين الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك قانون الخدمات الرقمية، وتلبي مراقبة المحتوى لدينا المعايير المقبولة في الصناعة وتتحسن باستمرار، ومن السخف الادعاء بأن المنصة أو مالكيها مسؤولون عن إساءة استخدامها... ما يقرب من مليار مستخدم حول العالم يستخدمون تليغرام وسيلة اتصال ومصدراً للمعلومات الحيوية، ودوروف ليس لديه ما يخفيه، وهو يزور أوروبا كثيراً"... يبقى السؤال الكبير في عالم التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية: لمن تكون الكلمة الأخيرة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة