السعودية والإمارات، وبعيداً من الشعارات الفارغة، تؤسسان اليوم إطاراً جديداً للعمل التنموي المشترك
من «أجمل» ما قدمته أزمة قطر، على سوءاتها وما خرج منها من دسائس ومؤامرات وخيانات، هو العمل الرائع الذي قام به مستشارو الشيخ حمد بن خليفة، الأمير السابق، وكان منصباً على التركيز على أهمية العلاقات الثنائية بين السعودية والإمارات، والقصد بالطبع هو محاولة إفساد هذه العلاقة. منذ بدء المقاطعة التي أقدمت عليها الدول العربية الأربع ضد قطر، بسبب مواقف الأخيرة المشبوهة ودعمها الجماعات الإرهابية، والإعلام القطري المسيس يحاول بشتى الوسائل إحداث شرخ في علاقة المملكة بالإمارات، غير مدرك أن هذا العمل لا يمكن إلا أن يقوي هذه العلاقة ولا يضعفها.
على أن قصة هذه المحاولات بدأت في الأصل قبل مقاطعة قطر، وكانت موجهة ضد الإمارات وحدها، وذلك على خلفية قراراتها الجريئة وغير المسبوقة، بطرد كوادر «الإخوان المسلمين» من الدولة، وتصنيف الجماعة بـ«الإرهابية». لكن دخول الإمارات في التحالف العربي الموجه ضد التدخل الإيراني في اليمن، بقيادة السعودية، كان العلامة الأبرز في استشعار الدور الجديد لدولة الإمارات.. السعودية بالطبع أعلنت تجريمها الجماعة ذاتها، وتسعى اليوم إلى تعقيم الوطن والمجتمع من مخلفات الفكر «الإخونجي» الذي عشّش وتضخم على مدى نصف قرن تقريباً وأسهم في قتل كثير من الطموحات التنموية، سواء ما يتعلق بالاقتصاد أو ببناء الإنسان، الإعلام القطري المؤيد لـ«الإخوان المسلمين» يتحاشى مواجهة المملكة، تفادياً لمزيد من الضربات الحاسمة، ولذلك فهو يحاول إفساد علاقة السعوديين بالإمارات لتحقيق بعض المكاسب.
السعودية والإمارات، وبعيداً عن الشعارات الفارغة، تؤسسان اليوم إطاراً جديداً للعمل التنموي المشترك، سيمتد إلى دول أخرى مجاورة داخل مجلس التعاون، وقد لا يقتصر بالضرورة على دول المجلس، ذلك أن مثل هذه المبادرات والمحفزات لا تعترف بالحدود
المملكة والإمارات، ولكل رؤيتها وأهدافها المستقبلية، لم تكترثا بتلك الحملات بالطبع، وبدأتا فعلياً العمل لترجمة التنظير والآمال إلى واقع. كيف يمكن تطوير العلاقات بين البلدين بما يحقق المنفعة لكل طرف، والاستفادة من مميزات هنا قد لا توجد هناك؟ لذا وقبل أقل من عام تم تأسيس ما يسمى «خلوة العزم» التي ضمت كبار المسؤولين المعنيين من البلدين، والهدف هو الوصول إلى علاقة تكاملية بين الدولتين. اليوم نقترب من التوقيع على عدد من هذه المبادرات التكاملية وغير المسبوقة، خصوصاً ما يتصل منها بالتنمية الاقتصادية. الواقع أنني أكتب هذه المقالة في الوقت الذي أعلنت حكومة أبوظبي منح المستثمر السعودي مزايا ومحفزات جديدة لا تقدمها إلا للمواطن الإماراتي.
ما يحدث في هذا الإطار أشبه ما يكون بالوحدة بين الدولتين، لكن القائمين على ذلك تجنبوا رفع هذا الشعار، وحسناً فعلوا. الواقع أن علاقات الدول العربية بعضها ببعض لم تعد تعتمد على تلك الشعارات العاطفية الرنانة، التي كان ينادي بها القوميون في الفترة التي تلت ثورة ٢٣ يوليو/تموز 1952 في مصر. تلك الشعارات التي تنادي بالوحدة العربية بين جميع الدول الناطقة بهذه اللغة، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى. نعلم بالطبع أنها (الوحدة) سقطت في الاختبار الأول الذي تشكل بين مصر وسوريا، إلا أن الشعار استمر، ثم بدأ يضعف بعد حرب 1967 إلى أن تلاشى تقريباً مع حركة أنور السادات التصحيحية، وحصل على الضربة القاضية مع غزو العراق للكويت، وانتهى مع ذلك دور ما يسمى التيارات القومية.
شعار الوحدة مع ذلك لم يتوقف، إذ تولت الأحزاب الإسلامية تقمص الدور وملء الفراغ الناتج عن غياب القومية، في النهاية حتى هذه الأحزاب وعلى رغم اتخاذها الدين شعاراً فشلت هي الأخرى بعد ثورة ٣٠ يونيو/حزيران في مصر، التي أطاحت بتجربتها الأولى في الحكم بعد سنة واحدة فقط تخللتها قصص التآمر والخيانة.
السعودية والإمارات، وبعيداً عن الشعارات الفارغة، تؤسسان اليوم إطاراً جديداً للعمل التنموي المشترك، سيمتد إلى دول أخرى مجاورة داخل مجلس التعاون، وقد لا يقتصر بالضرورة على دول المجلس، ذلك أن مثل هذه المبادرات والمحفزات لا تعترف بالحدود الجغرافية، وقد نرى مبادرات مشابهة بين السعودية وكل من مصر والأردن، بل حتى مع دول غير عربية، الحكم في النهاية والعامل الرئيسي للنجاح هو تبادل المصالح واستفادة طرف من ظروف وإمكانات طرف آخر بصورة تكاملية لا تهضم الحقوق.
ولكي أكون دقيقاً في هذا الطرح يكفي أن نعرف أن ما طرحته إمارة أبوظبي من مبادرات لم تأخذه إمارة دبي، وهذا يدل على المصارحة والثقة والمرونة والتعامل البراغماتي مع الظروف، دبي ربما لا ترى الحاجة إلى تطبيق كل ما جاء في قرارات أبوظبي، والسعودية تفهمت ذلك دون تحفظ كما يبدو، ومن يدري فقد تبادر المملكة إلى تقديم التسهيلات نفسها وأكثر لمواطني الإمارات ومستثمريها، بهدف المشاركة في تنمية مناطق سياحية وصناعية جديدة ومحددة داخل المملكة، دون أن تعمم ذلك على كامل مناطق الدولة، وسيكون ذلك مقبولاً، بل رائعاً، وأتمنى حدوثه حقيقة، وتحديداً في المناطق الخلابة العذراء فوق جبال تهامة والجنوب الباردة صيفاً.
أستذكر في نهاية هذا الإيجاز الأشقاء في قطر، مواطنين ومستثمرين، وكيف دفعت بهم الظروف وأطماع حكومتهم المتهورة إلى الغياب عن المشاركة في مثل هذه المشاهد الرائعة المبشرة بمستقبل واعد لأجيال الغد.. أليس ما يحدث بين السعودية والإمارات، سواء اليوم أو في المستقبل القريب، هو ما كان يتمناه أي مواطن خليجي أن يصبح واقعاً، منذ تأسيس مجلس التعاون قبل أربعة عقود؟
نقلا عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة