أردوغان يحاول الفرار من أزمته الاقتصادية الداخلية برفع شعارات قومية لإلهاء المواطنين الأتراك عبر تبني رؤية توسعية في الإقليم.
تشير البيانات الحديثة عن الاقتصاد التركي إلى استمرار أزمة هذا الاقتصاد. وبينما كان الاقتصاد يمر بحالة من التدهور وانعدام التوازن على أكثر من صعيد منذ صيف العام 2018، قد تصاعدت هذه الأزمة إلى حدود غير مسبوقة خلال هذا العام مع تفشي فيروس كورونا.
استمرار التدهور وخطط تحفيز غير كافية
انخفض الناتج المحلي الإجمالي التركي في الربع الثاني من العام الحالي بنسبة 9.9% مقارنة بمستواه في نفس الربع من العام السابق، وهو أكبر انخفاض يشهده خلال أكثر من عقد من الزمن.
وتبدو فداحة الصدمة أكثر فأكثر عند عقد المقارنة على أساس ربع سنوي بالنسبة لعدد أيام العمل، حيث انخفضت أيام العمل بمقدار 11% في الربع الثاني من العام مقارنة بالربع الأول، وهو ما يجعل منها أشد الانخفاضات التي تشهدها هذه الإحصاءات منذ عام 1998.
وحسب بعض المراقبين أدى تفجر فيروس كورونا وما ترتب عليه من إغلاقات للأنشطة الاقتصادية إلى صدمة اقتصادية تم التخفيف من حدتها بعض الشيء بزيادة منح الائتمان. وكانت تكلفة هذه العملية هي عدم توازن سعر صرف العملة، وهو ما دفع البنك المركزي إلى القيام فعليا برفع أسعار الفائدة خلال شهر أغسطس الماضي، وإن بشكل غير صريح عبر رفع كلفة التمويل كما سنوضح لاحقا.
وكانت أكبر الدوافع نحو الانكماش خلال الربع الثاني من العام الحالي هو تراجع إنفاق المستهلكين بنحو 8.6% مقارنة بإنفاقهم خلال نفس الربع من العام السابق.
كما انخفض تكوين رأس المال الثابت الإجمالي بنسبة 6.1% خلال الربع الثاني من العام الحالي مقارنة بالربع الثاني من العام الماضي، ويعد تكوين رأس المال الثابت الإجمالي مؤشرا على استثمارات قطاع الأعمال وهي الاستثمارات التي لم تحقق أي نمو منذ منتصف عام 2018.
ومن أجل مساعدة قطاع الأعمال والمستهلكين على اجتياز الوباء، قامت الحكومة التركية بوضع خطة تحفيز بلغ حجمها 33 مليار دولار، إلى جانب قيام البنوك الحكومية بتعزيز عمليات الإقراض. وفي الوقت ذاته، تبنى البنك المركزي سياسة التيسير النقدي فقام بحقن المزيد من السيولة في الاقتصاد عن طريق شراء السندات الحكومية، وتقديم سلسلة من التخفيضات في أسعار الفائدة كان أكبرها خفض سعر الفائدة بمقدار 1% في مارس 2020.
ولكن المثالب المرتبطة بجهود الحكومة لإنعاش الاقتصاد أضحت بينة. فقد ازدادت الضغوط التضخمية مرة أخرى، وكانت هناك موجة جديدة من الانخفاض في سعر صرف الليرة التركية، حيث بلغ هذا الانخفاض نحو 19% خلال هذا العام. وكان أداء العملة التركية هو أسوأ أداء لأي عملة من عملات دول الأسواق الناشئة خلال الربع الثالث (الحالي) من العام.
وقد دفع ارتفاع التضخم وتدهور سعر صرف العملة البنك المركزي إلى الارتداد عن طريق خفض الفائدة والعودة لزيادة تكلفة التمويل من خلال تقييد خفي، أي دون اللجوء إلى رفع شامل لأسعار الفائدة. وهكذا ارتفعت الفائدة على الإقراض دون رفع الفائدة على الإيداع. ومن المؤكد أنه سيكون لرفع تكلفة التمويل آثاره السلبية على عمليات الاستثمار التي تعاني أصلا من ركود منذ منتصف عام 2018 كما أسلفنا.
وتكاد تجمع كافة توقعات المؤسسات الدولية والمصرفية على أن خطة التحفيز الحكومية لن تكون كافية لإنقاذ الاقتصاد من أسوأ انكماش سنوي يتعرض له في تاريخه الحديث. حيث يتوقع صندوق النقد الدولي تراجع الاقتصاد بنسبة 5% هذا العام، ويتوقع استطلاع للرأي بين الاقتصاديين أجرته وكالة بلومبرج للأنباء انخفاض النشاط الاقتصادي هذا العام بمقدار 4%، وتتوقع وكالة فيتش للتصنيف الائتماني انخفاض النشاط بمقدار 3.9%.
وتدهور في المعاملات الخارجية
انخفضت الصادرات التركية بنسبة 35.3% في الربع الثاني من هذا العام مقارنة بنفس الربع من العام الماضي، بعد أن كانت قد حققت نموا هزيلا يبلغ نحو 0.3% في الربع الأول من العام. وعلى صعيد الواردات فقد تم تحقيق انخفاض بنسبة 6.3% خلال الربع الثاني من العام، بعد أن حققت انخفاضا بنسبة 21.9% خلال الربع الأول من العام. واستمر هذا الأداء السيئ للتجارة الخارجية خلال شهر يوليو الماضي، حيث أوضحت مؤخرا بيانات لمعهد الإحصاءات التركي أن الصادرات قد انخفضت بنسبة 5.8%، كما انخفضت الواردات بنسبة 7.9%.
وقد فرضت الحكومة التركية خلال الأسبوع الماضي ضرائب أعلى على معظم واردات السيارات. فقد تم رفع ما يسمى بضريبة الاستهلاك الخاصة على السيارات التي تبلغ سعة محركها 1600 سنتيمتر مكعب (سي سي) والتي تشكل القسم الأعظم من السيارات المستوردة إلى 80% بدلا من 60%. وبالنسبة للسيارات الكهربائية بسعة محرك يبلغ 2000 سي سي فسوف يزيد المعدل إلى 130% بدلا من المعدل الراهن البالغ 100%. أما السيارات ذات الفئات الأعلى فسوف تقفز الرسوم عليها إلى 220% بدلا من 160%. وبذلك ستكون تركيا صاحبة أعلى ضرائب في العالم على السيارات المستوردة
وتأتي هذه الإجراءات في أعقاب سلسلة من الزيادة في الضرائب التي أعلنتها تركيا منذ تفشي الوباء من أجل خفض الواردات. وذلك مع إضرار الوباء بالأسواق الرئيسية لتركيا وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، كما أدى تراجع النشاط السياحي إلى مضاعفة التدهور. وقد سجلت تركيا في شهر يونيو الماضي عجزا في حسابها الجاري، وهو سابع شهر على التوالي يتم تسجيل عجز فيه.
والمفارقة الحقيقية هي أنه لو كان أردوغان يحاول الفرار من أزمته الاقتصادية الداخلية برفع شعارات قومية لإلهاء المواطنين الأتراك عبر تبني رؤية توسعية في الإقليم، فإن هذه الرؤية ذاتها هي ما سوف تعمل بوضوح على تعميق أزمته الداخلية. فحدوث تمدد خارجي سيدفع لا محالة نحو المزيد من تدهور الأوضاع الداخلية ليصبح حاله فعلا كحال المستجير من الرمضاء بالنار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة