الموقف الأوروبي من تركيا رجب طيب أردوغان بات أكثر وضوحا اليوم.
ربما ليس عدائيا بالقدر الذي كان يتمناه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولكنه صارم كفاية لإبلاغ الرسالة المطلوبة، خاصة وأن الإعلان عن العقوبات الأوروبية رداً على التمدد "العثماني" شرق المتوسط، ترافق مع إعلان مشابه من الولايات المتحدة إزاء شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية "أس 400".
يأخذ الأوروبيون والأمريكيون اليوم الموقف ذاته إزاء "العثمانية الجديدة"، فعضوية تركيا في حلف الناتو لا تسمح لها بالتمرد على الشركاء، وتجاورها مع حدود الاتحاد الأوروبي لا يفرض على دوله التغاضي عن مصالحها، ما يقوله الطرفان باختصار، إنه لم يعد يجدي الابتزاز بأوراق من قبيل تصدير اللاجئين، ولم نعد نصدق بأكذوبة الأمن القومي، أو نقبل بمزاعم حقوق تركيا "المسلوبة".
لاشك أن الموقف الغربي، الأوروبي والأمريكي، لا زال يحتاج إلى المزيد من الشدة كي يضع "السلطان" الواهم في حجمه الطبيعي، وذلك على صعيد أن العلاقات بين الدول، وخاصة عندما تتعامل مع القوى الكبرى، يجب أن تصاغ بمنطق المصالح المتبادلة والحوار الاستراتيجي، وليس بالتعدي والتجاهل والتحدي وفرض الأمر الواقع.
ما يحاول الغرب إيصاله لأردوغان عبر العقوبات، هو ما دأب ساسة أوروبا وأمريكا على قوله منذ عامين على الأقل، وهو ذاته أيضا ما تسعى المعارضة التركية الداخلية إلى إقناع الرئيس به منذ أعوام، لا أحد يريد الخصومة مع أنقرة ولكن أردوغان جعل الحوار مع الخارج والداخل مستحيلاً، وأمعن في الممارسات والسلوكيات التي أدت إلى انقلاب الحلفاء إلى خصوم والأصدقاء إلى أعداء.
العقوبات الأوروبية والأمريكية تصنف تركيا كدولة "مارقة" في السياسة الخارجية المهددة لأمن جوارها والسلم العالمي، وهذا ما يجعلها تشبه إيران تماماً، وفي الحقيقة لا تختلف الدولتان أبدا على هذا المستوى، خاصة بعدما تغير نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وتفرد أردوغان بالسلطة إلى حدود همشت أصوات المعارضة، وفضحت كل مطامعه الاستعمارية في المنطقة.
ألا تتدخل الدولتان بقواتهما وميليشياتهما في دول عربية بحجة حماية حكوماتها تارة، ومحاربة الإرهاب تارة أخرى، ألا تروج الدولتان لنظريات ومزاعم دينية وتاريخية لتبرير تغلغلهما في جوارهما العربي، أليس الإسلام السياسي هو من يحكم في الدولتين ويسيطر على قرارهما وسلوكهما بشكل مباشر أو غير مباشر؟
ربما لم تعرف إيران منذ "الثورة الإسلامية" نهاية سبعينيات القرن الماضي أي عصر مضيء تحزن عليه ويدفعها إلى مراجعة سياستها حرصا على استعادته، ولكن تركيا عاشت النجاح من قبل، وعرفت معنى أن تكون متصالحة مع نفسها وشعبها وجوارها والعالم، انتعشت سياسيا واقتصاديا وحقوقيا وثقافيا، وتحولت إلى مشروع عضو في الاتحاد الأوروبي، إلى أن استيقظ "السلطان" الواهم وأفسد كل ذلك.
ما فعله أردوغان في الأعوام الأربعة الماضية، هو التماهي مع الخمينيين، وتبني فكر الإسلام السياسي بكل عقمه وعجزه على الحكم والتواصل مع العالم، فحول الدولة العضو في حلف الناتو لمدة تقارب سبعين عاماً، إلى ما يشبه "قاطع الطريق" و"رجل العصابات" الذي يريد الثراء بأي شكل كان، ولو على حساب خراب كل ما يحيط به، ودمار كل من يعرفه أو يقترب منه ويصادقه ويتحالف معه.
المفارقة أن كل مواطن الشبه الجديدة بين الدولتين، وكل التعاون الذي جمعهما بعدما أصبحا وجهان لعملة واحدة في التآمر على المنطقة العربية، لم يشفع لأردوغان عندما أنشد في باكو قبل أيام شعراً عن منطقة أراس الأذرية، واعتبرته إيران استهدافا لوحدة أراضيها، سارعت طهران إلى استدعاء السفير التركي لديها، وقالت له إن "أردوغان" لا يفهم ما يقول، ولا يعي تداعياته على علاقات البلدين.
لا يسمح الخمينيون باستهداف سيادتهم حتى بقصيدة شعر، ولكنهم يسمحون لأنفسهم بانتهاك سيادة غيرهم بالسلاح والميليشيات، وهذه أيضا واحدة من مثالب إيران التي لفتت أردوغان، فتركيا "العثمانية" اليوم تستهجن ترسيم دولتين مستقلتين لحدودهما البحرية على بعد آلاف الأميال عن شواطئها، ولكنها تسمح لنفسها بالتنقيب في المياه الدولية لغيرها، وترسل قطعاً حربية لحماية سفن تنقيبها.
صناعة ميليشيات مسلحة موالية لأسباب تتعلق بالعقيدة، وتجنيد المرتزقة مقابل المال، هي أيضاً من السلوكيات التي تعلمها أردوغان من الخمينيين، فعل ذلك شمال سوريا وغرب ليبيا وفي إقليم ناجورنو كاراباخ، أما الأسباب التي استدعاها فهي نسخٌ من مزاعم الخمينيين في حماية الأمن القومي، و"نصرة" الشعوب المظلومة، ومؤخرا بات أردوغان ينادي أيضاً بـ"المقاومة" لتحرير القدس.
هناك "شيمة" أخرى يبدو أن أردوغان قد تعلمها في تماهيه مع الخمينية، وهي قمع المعارضة، فمنذ أن تغير نظام الحكم في تركيا إلى رئاسي، تحول أردوغان إلى "خليفة"، وعجت السجون والمعتقلات في بلاده بعشرات آلاف النشطاء والحقوقيين والسياسيين المعارضين له، أما التهم فهي ذاتها التي تستخدمها طهران، إما الإرهاب أو التآمر مع الخارج على نظام الحكم لمحاولة تغييره.
في المحصلة، تزيد العقوبات الأمريكية والأوروبية على تركيا من أوجه التشابه بين الأردوغانيين والخمينيين، صحيح أن أنقرة لا تزال بعيدة عن حصار مشابه لما تعيشه طهران اليوم، ولكن "أردوغان" جر على بلاده عزلة تفتح الباب أمام جميع الاحتمالات مهما بدت بعيدة، كما أنه يمزق أوراق حياته السياسية الواحدة تلو الأخرى، حتى يأتي يوم ينشد فيه رثاءً لحاله ولإمبراطوريته المزعومة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة