دخلت الأجواء السياسية التركية مساراً تصعيدياً جديداً بين الحكم والمعارضة بسبب ملفين يعصفان منذ أسابيع في المشهد التركي .
عادة قديمة هي في العُرف السياسي التركي أن تعقد الكتل البرلمانية الكبرى اجتماعاً أسبوعياً مفتوحاً كل يوم ثلاثاء، تحت سقف البرلمان، يحدد فيه رئيس الحزب مواقفهم من الأحداث والتطورات المحلية والإقليمية .
قيادات العدالة والتنمية لم ترد رسمياً حتى الآن على تهم زعيم المعارضة، لكن هناك حقيقة تتقدم على الأرض في تركيا وهي أن السهام المسنونة جاهزة للانطلاق في صفوف الحكم والمعارضة، وهي ستكون مؤثرة سياسياً ومهددة بقلب التوازنات والمعادلات السياسية الحالية في البلاد.
مثل هذه الاجتماعات تحولت في الأسابيع الأخيرة إلى ساحة حرب ومواجهات مفتوحة، توجه خلالها القيادات السياسية سهامها المسنونة إلى بعضها البعض دون رحمة، زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري اليساري، كمال كيليشدار أوغلو، كشف هذا الأسبوع النقاب عن تقرير جديد؛ يقول إن جهاز المخابرات العامة زوّد في منتصف العام 2013 رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة وقتها به، وحذّره من تصرفات رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضراب وارتدادات ما يقوم به على العلاقات التركية الأميركية والإساءة إلى سمعة تركيا في الخارج، وتساءل لماذا لم تأخذ الحكومة بهذا التقرير بل اختارت الاتجاه الآخر في فتح الطريق أمام ضراب ليسيئ إلى سمعة البلاد على هذا النحو؟.
قيادات العدالة والتنمية لم ترد رسمياً حتى الآن على تهم زعيم المعارضة، لكن هناك حقيقة تتقدم على الأرض في تركيا، وهي أن السهام المسنونة جاهزة للانطلاق في صفوف الحكم والمعارضة، وهي ستكون مؤثرة سياسياً ومهددة بقلب التوازنات والمعادلات السياسية الحالية في البلاد .
دخلت الأجواء السياسية التركية مساراً تصعيدياً جديداً بين الحكم والمعارضة بسبب ملفين يعصفان منذ أسابيع في المشهد التركي، الأول يتعلق بقضية رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضراب الذي تجري محاكمته في أميركا بتهمة خرق قوانين الحظر الأميركية على إيران؛ بالتعاون مع سياسيين وبيروقراطيين أتراك.
وحيث أشار ضراب في أقواله أمام المحكمة إلى أن الحكومة التركية كانت على علم بعلاقاته مع مصرف "خلق بنك" الحكومي التركي لمساعدة طهران في الالتفاف على العقوبات الأميركية عبر خطط معقّدة لغسل العائدات الناجمة عن مبيعات النفط والغاز الإيرانية.
أما الملف الثاني فهو ملف الادعاءات التي أطلقها زعيم المعارضة كيليشدار أوغلو وما وصفه لاحقاً نائب رئيس الحزب، بولنت تزجان، بمستندات قانونية صحيحة تثبت تحويل أموال باسم مقربين في الدائرة الأولى لأسرة الرئيس أردوغان بينها نجله، أحمد براك، إلى شركة وهمية في "جزيرة مان" الإنكليزية بهدف تبييض هذه الأموال والتي بلغ مقدارها حوالي 15 مليون دولار .
كيليشدار أوغلو يقول أمام الرأي العام التركي إن لائحة تحويلات إلى شركة " بل وي " الوهمية في جزيرة " مان " البريطانية والموصوفة بجنة تهريب الضرائب، تمت تحديداً خلال شهري ديسمبر ويناير 2011 و2012، ويلوح بوثائق تثبت ذلك وهو واثق من صحتها كما يقول.
لكن كيليشدار أوغلو لا يكتفي بذلك بل يتابع مخاطباً أردوغان " تطلب من مواطنيك تسديد ضرائبهم، فيما ترسل أولادك وأقاربك لتأسيس شركة على جزيرة أوف شور ، وتحويل ملايين الدولارات إليها "، ورداً على نفي الرئيس التركي للتهم ووصفها بالأكاذيب يقول زعيم المعارضة "لماذا إذاً تقف قيادات الحزب الحاكم في طريق فتح تحقيق نيابي بهذا الشأن إذا ما كانت واثقة من نفسها؟".
التوتر وصل إلى نقطة اللاعودة في الساعات الأخيرة مع دخول وزير الداخلية التركي سليمان صويلو على خط الأزمة وإعلانه قبول التحدي وأن كيليشدار أوغلو سيدفع ثمناً باهظاً بسبب افتراءاته " سترى ما الذي سنعلقه في عنقك إذا لم تثبت ما تقوله؟"، لكن الكلمة النهائية ستكون هنا للمدعي العام في أنقرة الذي فتح تحقيقاً في المزاعم .
زعيم المعارضة يريد إنزال الضربة القاضية بأردوغان وحزبه عبر تحريك الملفين مرة واحدة وكسب الرأي العام التركي إلى جانبه، في حملة تحت شعار تورط قيادات سياسية وحزبية رفيعة في العدالة والتنمية بملفات الرشاوى والفساد، وتهريب الأموال إلى الخارج، من خلال شركات غسل الأموال، وحزب العدالة والتنمية يحاول أن يعيد خصمه السياسي إلى أسلوب السياسية السلبية التي تضعفه وتعزله أمام الناخب التركي عبر التركيز على حملات الافتراء والتخوين التي يقودها كيليشدار أوغلو منذ أشهر ضد الرئيس التركي وحكومته وحزبه، ويحاول أن يخلق حالة من الارتداد العكسي على مستوى الناخب عبر التركيز على موضوع أن زعيم المعارضة يتحرك بإرادة وقرار خارجي وتحديداً بإشراف جماعة فتح الله غولن أو الكيان الموازي المتهم الأول في الوقوف وراء المحاولة الانقلابية في يوليو 2016.
كيليشدار أوغلو لم ينجح رغم حملته الشديدة والمبرمجة ضد الحكومة في الوصول إلى هدف إقناع الرأي العام بصحة الادعاءات المذكورة، ولم يتمكن من لعب ورقة الشارع والإعلام لتبني ما يقوله، فالتهم في غاية الخطورة وتحتاج إلى توثيق، والأهم إقناع المدعي العام التركي به ليتحرك قضائياً . وهو يعرف أن ما يقوله في غاية الخطورة وسيكون على شاكلة سيف بحدين قد يطيح بحزب العدالة والتنمية لكنه قد يتحول إلى المقصلة السياسية التي تقضي عليه هو الآخر وتبعد حزبه عن حلم الوصول إلى السلطة في تركيا بعد سنوات طويلة من الانتظار .
كيليشدار أوغلو الذي تقاسم الوثائق التي يملكها مع الإعلام والقضاء التركي، يعرف جيداً أن ما فعله يعني إضرام النار بسفن العودة، وأنه يدخل في مغامرة سيكون ثمنها السياسي والحزبي مكلفاً إذا لم يثبت ما يقول، مشكلته أيضا أن حزب الحركة القومية اليميني المعارض يقف إلى جانب الحكومة في سياساتها وقراراتها منذ المحاولة الانقلابية قبل عام ونصف، وأن هذا الحزب دخل في عملية تفاهم وتحاصص مع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة كما يبدو، وهو لن يصغي إلى ما يقوله زعيم المعارضة، وبين مشاكله أيضاً وجوده في موقع من ينسق مع حزب الشعوب الديمقراطي المحسوب على أكراد تركيا، والذي يواجه أكثر من مشكلة حزبية وسياسية وحيث إن غالبية قياداته في السجون اليوم، دون أن ننسى طبعاً القوة الإعلامية الضخمة التي تقف إلى جانب الحزب الحاكم وتدعمه اليوم.
امتحان كيليشدار أوغلو مصيري بالنسبة له ولحزبه من خلال تحريك هذه الملفات التي ستحدد مصيرهما في مارس 2019 حيث ينتظر تركيا 3 انتخابات دفعة واحدة، انتخابات محلية ثم برلمانية ورئاسية، تجري لأول مرة بشكل متزامن بموجب التعديلات الدستورية التي أقرت في استفتاء أبريل الماضي، وسيتم بموجبها التطبيق الرسمي للنظام الرئاسي .
استطلاعات رأي كثيرة تتحدث عن استرداد المعارضة لثقلها بعد الأرقام المشجعة التي حصلت عليها خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية، لكن حزب العدالة والتنمية لا يريد المغامرة، وتطويل الأمور خلال هذه الاستحقاقات، لذلك قد يلجأ إلى التحالف مع حزب الحركة القومية الذي فقد الكثير من قوته لصالح الحزب التركي الجديد "يني بارتي" ولحسم الأمور من الجولة الأولى في المعركة الرئاسية عبر الحصول على 50 بالمائة من أصوات الناخبين.
طرح موضوع التحالف الانتخابي بحد ذاته يعني بالنسبة لقواعد وكوادر حزب العدالة والتنمية أن هناك أزمة ثقة وقلق في مسألة استعادة ثقة الشارع التركي في الحزب التي ستكون أمام امتحان مصيري لا يقل خطورة عن نتائج انتخابات يونيو 2015 والصدمة التي تعرض لها حزب العدالة والتنمية وقتها .
قيادات العدالة والتنمية تقول إن التفاهم مع حزب الحركة القومية ليس صعباً لأننا متوافقون حول طريقة التعامل مع غالبية الملفات الداخلية والخارجية، والعديد من الأقلام المقربة من الحكم اليوم تتوقف عند سيناريو أن كيليشدار أوغلو والمعارضة التركية يريدان قطع الطريق على هذا التحالف باكراً من خلال فتح الطريق أمام الحزب القومي البديل "يني بارتي" أولاً، وبعدها طرح مثل هذه الملفات للإيقاع بين الحزبين ثم دفع قواعدهما الشعبية للابتعاد عنهما وإنهاء سيناريو " حصتكم قرابة 10٪ وحصتنا لن تقل عن 40٪ في أسوأ الأحوال " وهذا سيكفي للقيادة المشتركة للمرحلة السياسية والدستورية والحزبية في البلاد حتى العام 2023 على أقل تقدير .
كل طرف يحاول أن يقنع أنصاره وقواعده بما يقول والمواجهة قد يحسمها القضاء التركي بشكل أو بآخر، لكن النتيجة النهائية ستعلن بالضربة القاضية حتما أمام كل هذه التعبئة والحشد السياسي والحزبي والإعلامي في تركيا .
كيليشدار أوغلو يقول إنه سيستمر حتى النهاية في الكشف عن عمليات الفساد والاختلاس السياسي داخل صفوف العدالة والتنمية، وهو يريد جر سفينة الحزب نحو الغرق التدريجي، لكن قيادات العدالة والتنمية التي ستحارب على جبهتين دفعة واحدة تتحدث عن مؤامرة سياسية بأصابع داخلية وخارجية تستهدف تركيا دون أن يتردد أردوغان بتذكير كيليشدار أوغلو نفسه كيف وصل إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري قبل 5 سنوات، وتسلمه من دنيز بيقال في رسالة دفاعية هجومية ملخصها من يصل إلى رئاسة الحزب عبر أشرطة مُزيّفة سيذهب عبر مستندات مُزيّفة أيضاً، وللحديث تتمة طبعاً .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة