وكانت العلاقات بين أنقرة وواشنطن قد شهدت الكثير من التوتر منذ عام 2016م
أثارت لوحة تصويب في مناورات حلف الناتو في النرويج حفيظة وغضب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي كان عليها اسمه وصورة لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك.
وعلى إثرها اتخذ أردوغان قراراً عاجلاً في السابع عشر من الشهر الجاري، وأثناء إلقاء خطابه أمام رؤساء فروع حزب العدالة والتنمية؛ خلال الاجتماع الدوري السادس في ولاية ريزا الواقعة شمال شرق البلاد، بسحب قواته من المشاركة في المناورات، واعتبر تلك العملية بمثابة إهانة له وللجمهورية التركية والتي لم يسبق لها مثيل، مؤكداً أنه لا يمكن أن يكون هناك تحالف كهذا على حد قوله.
تفاعلات الوقائع والأحداث السياسية ما بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، جعلت تركيا تفكّر سياسياً بضرورة انضمامها إلى منظمة شنغهاي بهدف التعاون العسكري والاقتصادي مع أعضاء تلك المنظمة كبديل عن الاتحاد الأوروبي.
ورغم اعتذار أمين الحلف يانس ستولتنبرغ عن وقوع هذه الإهانة، وإبعاد الشخص المسؤول عن ذلك من مركز التدريب مع فتح تحقيق في القضية، إلا أن عدداً من المسؤولين السياسيين الأتراك الذين أغضبهم سلوك حلف الناتو في التدريبات التي تمت ما بين 8 -17 نوفمبر في النرويج؛ طالبوا الحكومة التركية باتخاذ تدابير جذرية والانسحاب من الناتو، ولكن من غير المرجّح أن يؤثر هذا الاعتذار على الحالة المزاجية في المجتمع التركي، حيث عززت الأوساط السياسية التركية في الوقت الراهن مواقفها المناهضة لحلف شمال الأطلسي.
المشرف على تصميم نماذج المحاكاة للسيرة الذاتية لقادة العدو، وضع خلال التدريب تمثالا لأتاتورك، مع السيرة الذاتية لأولئك القادة، وبالإضافة إلى ذلك أنشأ أحد موظفي الحلف حسابا وهميا للدردشة الافتراضية باسم أردوغان، واُستُخدِمت ضمن الرسائل المرسلة من هذا الحساب تعابير تبين أن الأخير على علاقة وثيقة مع قادة العدو ويتعاون معهم.
وحيال الإهانة التي تلقاها أردوغان من الناتو طالب العديد من السياسيين وأعضاء في الأحزاب التركية، الذين أغضبهم هذا التصرف، بعقد اجتماع عاجل للبرلمان لمراجعة القانون رقم 5886 الصادر في 18 فبراير عام 1952 بشأن الانضمام إلى حلف الناتو، مطالبين بأن تعلن بلادهم انسحابها من الحلف خاصة وأن العديد من المواطنين الأتراك سجلوا امتعاضهم من محاولة الانقلاب الفاشلة التي نظمها الغرب، وضرورة التخلص من الوجود العسكري للقوات الأجنبية على الأراضي التركية بما في ذلك قاعدة أنجرليك الجوية.
لقد عبّر زعيم حزب فاتان التركي دوغو بيرينجك عن موقفه بقوله: كانت تركيا هدفاً لحلف شمال الأطلسي منذ 68 عاماً، ومن الطبيعي أن تكون كذلك، لأن أتاتورك كان هدفها الأساسي، وقد أعلن الناتو عن هذه الآراء أمام العالم أجمع، ولا يضمن الحلف استقلالنا، بل يريد أن يفكّك وطننا ويعمل على تقويض اقتصادنا، لذلك يجب على تركيا الانسحاب من هذه المنظمة العدائية.
ثمة تساؤلات مطروحة في هذا الإطار، وهي أن اكتساب عضوية الناتو ممكن، لكن الخروج منه أمر غير ممكن ما لم يقع انقلاب في البلد المعني، أو يصاب النظام فيه بالعجز، وقد حدد الحلف شروط الحصول على عضويته بشكل مفصّل في المادة العاشرة من المعاهدة، وتحدث في المادة الرابعة عن الإجراءات المتخذة لاكتساب العضوية، لكنه لم يضع مادة تنظم إنهاء عضوية أحد الأعضاء فيه.
وبطبيعة الحال ربما فكر مؤسسو الناتو، انطلاقاً من سياسة توسيعه في فترة الحرب الباردة أن مجرد وضع هكذا مادة يضعف الحلف؛ لأن ذلك يعني فقدان عضو لصالح المعسكر المنافس، ولهذا فإن الأوساط الراغبة في إبعاد تركيا عن الحلف الغربي تعمل خلال السنوات الأخيرة في كيفية التوصل إلى حل، وأكثر ما يسعد الأوساط المذكورة هو خروج تركيا بنفسها من الناتو.
وزيرة الدفاع الألمانية أبلغت تركيا في شهر يونيو 2017م بمصادقة حكومتها على قرار انسحاب قواتها المتمركزة في قاعدة إنجرليك الجوية ونقلها إلى قاعدة الأزرق في الأردن، وكانت أنقرة قد حظرت زيارة عدد من النواب في البرلمان الألماني لتلك القاعدة، بسبب منح السلطات الألمانية حق اللجوء السياسي لعدد من العسكريين الأتراك، بتهمة ضلوعهم في محاولة الانقلاب الفاشلة.
وإلى جانب ذلك نبّه نائب المستشارة الألمانية، وكما نقلت بعض المصادر إلى ضرورة عدم السماح لتركيا بابتزاز الاتحاد الأوروبي بخصوص حرية تنقل مواطنيها في دول الاتحاد، وينظر إلى إعفاء المواطنين الأتراك من التأشيرة في دول أوروبا على أنه مكافأة لأنقرة على وقفها لتدفق اللاجئين إلى أوروبا.
وأشار إلى أن تركيا تبتعد عن أوروبا بخطوات درامية تتخذها، منها التفكير في إعادة عقوبة الإعدام في مخالفة سافرة لميثاق حقوق الإنسان الأوروبي، وكانت ألمانيا قد ناشدت أنقرة بأن تراعي الاعتدال في إجراءاتها المتعلقة بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
وفي الرابع عشر من شهر أكتوبر 2017م طالبت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الرئيس دونالد ترامب بنقل الأسلحة النووية الأمريكية من قاعدة أنجرليك التركية، وذلك نظراً للعلاقة المتدهورة بين البلدين، كما اتهمت الصحيفة الرئيس التركي بانتهاك الحريات المدنية وقواعد الديمقراطية، علاوة على اقتناء بلاده نظاماً للدفاع الجوي الروسي.
كما أن نقل الأسلحة النووية سيكون بمثابة خطوة ذكية قبل انهيار العلاقات التركية الأمريكية، ومن المحتمل أن تمضي واشنطن في هذه الخطوة على وجه السرعة وبصورة سرية.
المراقبون السياسيون يعتبرون أن عضوية تركيا في الناتو تعد أحد أسباب الثقل الاستراتيجي الذي تتمتع به في المنطقة، ومن المرجّح أن تكون أنقرة الخاسر الأكبر إذا تخلت عن علاقتها بالغرب في مقابل توثيق علاقتها مع روسيا وشرائها منظومات صواريخ روسية، حيث ترغب الولايات المتحدة في بقاء تركيا لاسيما وأن وجود حليف مؤثر في الشرق الأوسط أمر بالغ الأهمية، وتركيا تعد حليفاً للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية؛ فهي تعتبر ثاني أكبر جيش في الناتو بعد أمريكا وتستضيف قواعد عسكرية أمريكية بما فيها قاعدة إنجرليك.
والتحذيرات التي أطلقها رئيس لجنة حلف الناتو للشؤون العسكرية، الجنرال بيتر بافل، ضد السلطات التركية أواخر الشهر الماضي، من أن العواقب محتملة وعملية شراء نظام دفاع صاروخي روسي بالأساس قد تستبعد إمكانية انضمام أنقره إلى النظام الموحد للدفاع الجوي الخاص بالحلف، موضحاً أن مبدأ السيادة له دور عند شراء الأسلحة والمعدات العسكرية، إلا أن الدول تعتبر دولاً ذات سيادة ليس فقط أثناء قيامها باتخاذ قرارات فحسب، بل وعندما تواجه عواقب ناتجة عن اتخاذ هذه القرارات.
الرئيس أردوغان قال يوم الثاني عشر من أيلول الماضي، إن أنقرة وقّعت اتفاقية مع موسكو بشأن شراء منظومات صواريخ الدفاع الجوي من طراز إس — 400 وأنه قد تم دفع القسط الأول، ومن جانبه أكد مساعد الرئيس الروسي لشؤون التعاون العسكري التقني فلاديمير كوجين، أن بلاده وتركيا قد وقعتا الصفقة الخاصة بتوريد هذه المنظومات، ويجري التحضير لتطبيقها وستبدأ توريدات منظومات صواريخ إس -400 خلال عامين.
وكانت العلاقات بين أنقرة وواشنطن قد شهدت الكثير من التوتر منذ عام 2016م، خاصة بعدما طالبت أنقرة بتسليمها فتح الله غولن المقيم منذ سنوات في الولايات المتحدة، إلى جانب التوتر المرتبط بالصراع في سوريا ومحاولة الانقلاب الفاشلة وقضايا مرفوعة في الولايات المتحدة ضد مسؤولين أتراك.
لكن ما يدعو للقلق التركي هو دعم واشطن لوحدات حماية الشعب الكردية، والتي تعتبرها صديقاً عسكرياً يمكن الاعتماد عليها في إحداث متغيرات جيوسياسية في الأزمة السورية، في حين تعتبرها أنقرة قوات إرهابية، الأمر الذي يعمّق الخلافات الأمريكية التركية خاصة بشأن التعامل مع الملف السوري، فهل هي بداية القطيعة بين الطرفين؟.
مسألة دعم واشنطن للوحدات الكردية في سوريا أضافت المزيد من التعقيد بجوهر العلاقات، وقد بدا ذلك جلياً من خلال تصريحات المسؤولين الأتراك التي تشير بوضوح إلى نية أنقرة في تصعيد الموقف مع واشنطن التي باتت استراتيجيتها في سوريا بعيدة كل البعد عن الطموحات التركية.
تفاعلات الوقائع والأحداث السياسية ما بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، جعلت تركيا تفكّر سياسياً بضرورة انضمامها إلى منظمة شنغهاي بهدف التعاون العسكري والاقتصادي مع أعضاء تلك المنظمة كبديل عن الاتحاد الأوروبي، وكذلك إقامة علاقات مع جيرانها في المنطقة العربية ومع الدول الآسيوية مثل روسيا والصين والهند، إلا أن المبادئ التأسيسية لمنظمة شنغهاي تتطلب من الأعضاء التقيّد بمبدأ عدم الانحياز، وهذا قد لا يتوافق مع التزامات تركيا في حلف الناتو، إلا إذا كانت أنقرة مستعدة لإجراء تحول أكبر بكثير في السياسة، وهو ما قد ينطوي معها على مشكلة كبيرة لأي إدارة أمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة