بدأت العلاقات التركية الأمريكية مرحلة من البرود والصدود حتى انفجر الوضع بعد الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016.
لم تشهد السياسة التركية ارتباكاً كالذي تشهده اليوم، فمنذ احتدام الصراع على الساحة العربية بما يناهز العقد من الزمن زجّ الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بنفسه وبلاده في خضم هذا الصراع، لا سيما على الساحة السورية التي أقحم نفسه فيها منذ اليوم الأول لتَفجر الأوضاع في عام 2011، ولكن هذا التدخل لم يكن دون مقابل، فقد كان الدافع له هو المصالح والأحلام السلطانية، أما الثمن الذي ستدفعه "تركيا أردوغان" فبدا واضحاً أنه سيكون باهظاً منذ مغامرة الرئيس التركي باللعب على الحبلين بين اللاعبَين الدوليين الرئيسين على الساحة السورية، وهما "روسيا" و"الولايات المتحدة".
بدأت العلاقات التركية الأمريكية مرحلة من البرود والصدود حتى انفجر الوضع بعد الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، إذ سارع أردوغان باتهام أمريكا بتسهيل عملية الانقلاب ومساعدة الانقلابيين، وطالب واشنطن بتسليم المعارض ورجل الدين التركي "فتح الله غولن" في المنفى الاختياري في الولايات المتحدة
بدت تركيا في بداية الاضطرابات التي عصفت بالبلاد العربية عموماً وسوريا خصوصاً منسجمة في سياستها مع السياسة الأمريكية ومواقفها منها، وحتى بعد التدخل الروسي المباشر على الأرض السورية اختارت أنقرة موقف العداء، واستظلت بالمظلة الأمريكية كحليف قوي، وبدأت بمسلسل التصريحات العدائية تجاه التدخل الروسي بعد نزول القوات الروسية على الأرض السورية في سبتمبر/أيلول 2015 وكانت لهجة التصريحات التركية تزداد حدة يوما بعد يوم حتى إسقاط الطائرة الروسية من نوع سوخوي 24 في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، مما أدى إلى توتر العلاقات بين أنقرة وموسكو بشكل غير مسبوق، منذرة بقدوم الأسوأ بين الطرفين. كانت حادثة إسقاط الطائرة الروسية مفصلية بالنسبة للعلاقات التركية الروسية من جهة والعلاقات التركية الأمريكية من جهة أخرى، وإن كانت أمريكا التزمت الصمت وحاولت احتواء الموقف بين الطرفين (روسيا وتركيا) بطريقة خجولة، وذلك بالدعوة إلى ضبط النفس والتريث في استقصاء الحقائق، إلا أن الواقع بدا بأن الولايات المتحدة لم تر في السياسة التركية إلا الرعونة ومحاولة لعب دور أكبر من حجمها مدفوعة بمصالحها القائمة على الأحلام.
إن هذا الموقف الأمريكي في حقيقة الأمر لم يصرح به إنما تُرجم بالأفعال عندما بدأت الولايات المتحدة بدعم الأكراد في سوريا حتى أصبحوا البديل لتركيا، فبدأت العلاقات التركية الأمريكية مرحلة من البرود والصدود حتى انفجر الوضع بعد الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، إذ سارع أردوغان باتهام أمريكا بتسهيل عملية الانقلاب ومساعدة الانقلابيين، وطالب واشنطن بتسليم المعارض ورجل الدين التركي "فتح الله غولن" في المنفى الاختياري في الولايات المتحدة، وعندما لم تستجب أمريكا لمطالب أنقرة اعتقلت الأجهزة الأمنية التركية القس الأمريكي "أندرو برونسن" المقيم في تركيا بتهمة الاتصال بجماعات تصنفها تركيا إرهابية وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، ولم تفرج عنه على الرغم من التهديدات الأمريكية التي كانت شديدة اللهجة في حال لم يتم إطلاق سراحه، فتزمتت تركيا بموقفها حتى فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على أنقرة هددت الليرة التركية والاقتصاد التركي بالسقوط عام 2018، وما زالت مفروضة حتى الوقت الراهن.
كل ذلك دفع بأردوغان إلى إعادة حساباته وتقديم بعض التنازلات وإعادة العلاقات مع موسكو عن طريق تقديم اعتذار رسمي لروسيا عن إسقاط الطائرة بعد ما مر ما يقارب العام من التعنت ورفض الاعتذار بذريعة أن إسقاطها كان حقا مشروعا لتركيا لاختراقها الأجواء التركية وتجاهل التحذيرات. فكان الاعتذار بداية تحسن العلاقات الروسية التركية التي بدأت مرحلة من الانسجام حتى على ساحة الصراع السورية، وتمثل بفتح خط مباشر بين الرئيسين الروسي والتركي وزيارات رسمية بين الدولتين على مستوى الرؤساء ووزراء الخارجية وتنظيم المؤتمرات كـ"سوتشي"، والاتفاق على مناطق خفض التوتر والتصعيد في سوريا والتفاهم حول إدلب، فبدت العلاقة بين الدولتين كعلاقة تحالف تام على الرغم من محاولات أنقرة في ذات الوقت المحافظة على إبقاء الباب مواربا مع واشنطن بتحالف، وإن كان ظاهرياً فقط ولا سيما بعد الاتفاق الروسي التركي على تزويد تركيا بمنظومة الدفاع الجوي الروسية (S400) المتناقض مع منظومة التسليح للجيش التركي تحت مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة والقائمة في أغلبها على الأنظمة الأمريكية والغربية كمنظومة الدفاع الجوي الأمريكية (باتريوت)، مما اعتبرته واشنطن غدراً وطعنة في الظهر، لقد اعتبرت الولايات المتحدة ذلك أمرا خطيرا لا يمكن التهاون فيه، لما يشكله هذا السلاح من خطورة على الأسلحة الأمريكية في تركيا.
إن اقتراب موعد إتمام الصفقة وتسلم تركيا لمنظومة (S400)، شكل نقطة فارقة جعلت واشنطن تضيق ذرعا بالسياسة التركية المتسمة باللعب على الحبلين (الحبل الروسي والحبل الأمريكي)، وجاء هذا الضيق متمثلا ببيان من وزارة الخارجية الأمريكية منذ يومين، مخيرة أنقرة بين واشنطن وموسكو وتحديداً بين منظومة الدفاع الجوية الروسية (S400) أو البرنامج التطويري الأمريكي للمقاتلة (F35) الذي تشارك فيه عدة دول بينها تركيا، والجدير بالذكر أن هذه المقاتلة بحسب الخبراء العسكريين متطورة جدا ستحيل عدة مقاتلات إلى التقاعد، وعلى رأسها المقاتلات (F16) و(F18) عماد القوة الجوية التركية، وهو ما تعتزم واشنطن إعادة النظر في أمر مشاركة تركيا بالبرنامج وحرمانها من التسلح بالمقاتلة (F35) إذا ما أتمت تركيا الصفقة مع روسيا، مما جعل أنقرة في موقف محرج وأمام حسابات مربكة ولا مجال لها اليوم إلا الاختيار بين واشنطن وموسكو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة