أنقرة تقول إن تنفيذ عملية عسكرية في إدلب يقودها النظام يتعارض مع تفاهمات الأستانة التي رسمت خارطة مناطق تخفيض التوتر وتقاسم النفوذ.
بعد ساعات على إعلان البيان الختامي لقمة طهران الثلاثية جددت المقاتلات الروسية والسورية والمليشيات الإيرانية قصف مدينة إدلب وسط قناعة شبه كاملة بأن هذه الهجمات سيعقبها في المرحلة المقبلة عملية عسكرية بريّة واسعة أبعد من مسألة محاربة المجموعات الإرهابية والقضاء على تنظيم "هيئة تحرير الشام" في المنطقة.
تحاول أنقرة التلويح بارتدادات ملف اللجوء وتحريك الورقة ضد بعض العواصم الأوروبية وتذكيرها بأعبائها البشرية والمادية والأمنية، وربما قد نرى مساندة أوروبية لمواقفها، لكن واشنطن هي التي ستحسم الأمور في النهاية تحت سقف الأطلسي ودعوة الجميع للعودة إلى الحضن الأمريكي
تقول أنقرة إن تنفيذ عملية عسكرية في إدلب يقودها النظام يتعارض مع تفاهمات الأستانة التي رسمت خارطة مناطق تخفيض التوتر وتقاسم النفوذ الميداني، وإن ما تريده دمشق هو أبعد من استرداد السيطرة على المدينة، ما يحمل موسكو وطهران مسؤولية عمل عسكري من هذا النوع يتسبب في كارثة إنسانية وحرب تدمير طاحنة ويعرض حياة جنودها المنتشرين في المنطقة للخطر.
الموقف التركي يعكس حجم التباعد بين أطراف الأستانة لكنه يعكس أيضا حجم فشل قمة طهران والانقسامات التي تتحول تدريجيا الى اصطفافات محلية وإقليمية جديدة على ضوء المواقف والتحركات التي نتابعها للعديد من العواصم العربية والغربية.
بشكل آخر، ترى تركيا أن مواجهة إدلب لا تمثّل الستار الأخير في الحرب السورية وأن هناك مساومة ستحصل في شرق الفرات ودير الزور والرقة، حيث يتزايد النفوذ والدور الأمريكي، لذلك هي قلقة أن تدفع ثمن كل هذا الحراك السياسي والعسكري على حدودها الجنوبية.
مشكلة أنقرة الأخرى هي أنه لن يكون بمقدورها القطيعة مع موسكو وطهران بمثل هذه السهولة والسرعة إذا ما انفجر الوضع في إدلب دون العثور على بدائل وتطمينات استراتيجية أمريكية وأوروبية جديدة، وأن هذه القوى لن تعطيها ما تريده قبل أن تحصل على تعهدات واضحة بشأن عودة تركيا إلى بيت الطاعة الغربي لناحية الابتعاد الاستراتيجي عن موسكو والقطيعة مع طهران، لذلك نرى أن الموقف التركي هو الأصعب بالمقارنة مع أوضاع البقية في هذا المشهد.
لكن الصدمة الحقيقية بالنسبة لأنقرة ستكون عندما تجلس موسكو وواشنطن أمام طاولة حوار ثنائي لبحث الملف السوري على شكل صفقة لم تعلن بعد، تقوم على تسليم شرق سوريا لأمريكا مقابل عودة إدلب للنظام وتمركز استراتيجي روسي في شمال سوريا يفتح الطريق أمام تسويات سياسية في ملف الأزمة السورية.
تصعيد إيران في قمة طهران الأخيرة ضد الوجود الأمريكي سببه ربما اكتشافها لعبة الخديعة الروسية هذه مع واشنطن واحتمال خروجها هي الأخرى من العرس بلا قرص في سوريا. طهران تريد الالتصاق أكثر فأكثر بروسيا بعد الآن، لأنه لا خيارات أخرى لها أمام التصعيد الأمريكي الواضح ضدها في سوريا والعراق والمنطقة. لكن النقاش سيتمحور حول القرار والخيارات التركية في المرحلة المقبلة أمام سيناريوهات معقدة متشابكة من هذا النوع تقودها لدفع الثمن الذي حاولت تجنبه في الأشهر الأخيرة عبر قرار الرد الاستباقي في جرابلس وعفرين. هل أنقرة قادرة على تحرك استباقي آخر في إدلب هذه المرة لقطع الطريق على سيناريوهات من هذا النوع؟
كيف يتابع الأتراك مثلا تصريح المندوبة الدائمة لأمريكا في مجلس الأمم المتحدة نيكي هالي التي تقول "إذا أراد الأسد السيطرة على سوريا يمكنه أن يفعل ذلك ولكن ليس باستخدام الأسلحة الكيماوية"؟ هل هو مؤشر على استعداد أمريكي للتفاهم مع الكرملين في إدلب على عملية عسكرية تجري هناك ليس بهدف فتح الطريق أمام النظام للعودة إلى المنطقة بل لإخراج طهران وأنقرة من المعادلة في الشمال مركز الثقل الأساسي لتركيا في سوريا اليوم؟
بالمقابل يبدو أن اصرار موسكو على إخراج "هيئة تحرير الشام" من قائمة أهداف روسيا عبر النظام يؤكد أن الكرملين جاهز للعب ورقة القضاء على بقايا النصرة أمام طاولة التفاهمات مع واشنطن.
تركيا تردد أنها تعطي الأولوية لأمن المدنيين وحماية حلفائها المحليين في إدلب، لكن حسابات موسكو وواشنطن قد تكون أكبر من ذلك بكثير؛ فالولايات المتحدة متمسكة بإخراج إيران من المعادلة الإقليمية وهي تصر على وقوف دول المنطقة إلى جانبها في ذلك، وأن الانفتاح على موسكو هو بين خيارات إخراج من يعارض الخطة الأمريكية من اللعبة حتى ولو كان بينهم شركاء وحلفاء استراتيجيون مثل تركيا.
تحاول أنقرة التلويح بارتدادات ملف اللجوء وتحريك الورقة ضد بعض العواصم الأوروبية وتذكيرها بأعبائها البشرية والمادية والأمنية، وربما قد نرى مساندة أوروبية لمواقفها، لكن واشنطن هي التي ستحسم الأمور في النهاية تحت سقف الأطلسي ودعوة الجميع للعودة إلى الحضن الأمريكي.
تريد تركيا البقاء في إدلب، عبر التوافق مع روسيا، وبنقاط مراقبتها الاثنتي عشرة، من أجل تأمين الحدود مع سوريا، وتأمين عمق مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات من أي تهديد يسمح بعودة سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية". وتريد أيضا مستفيدة من أوراق القوة التي تملكها في شمال سوريا مثل وجودها العسكري الضخم وتحالفاتها مع قوى المعارضة واقتراب مناطق العمليات في إدلب من مناطقها الحدودية التي توفر لها التحرك اللوجيستي الواسع أن تقنع الروس والإيرانيين بمخاطر تفجير الوضع في إدلب لصالح النظام، لكن لعبة التفاهمات الإقليمية والدولية، خصوصا الأمريكية والروسية، هي التي ستقرر مصير العملية العسكرية ومسارها ونتائجها، ما يترك أنقرة أمام أزمة انزلاق جديد يقلب المعادلات في سوريا.
معطيات وحقائق كثيرة على الأرض تعكس حقيقة عدم قدرة تحالف الأستانة الثلاثي على إنهاء أزمة إدلب بطريقة سلمية لأن الحسابات والمصالح والخطط تتضارب رغم التوافق على الورق كما شاهدنا في قمة طهران.
في العلن، موسكو وطهران تقولان إنهما تتفهمان ما تقوله أنقرة وتلتزمان بإعلان إدلب ومحيطها "منطقة خفض توتر" في مايو/أيار 2017، بموجب اتفاق الأستانة، لكن من وراء الستار هما اللتان تحركان النظام في سوريا وتحرضانه على تنفيذ التعليمات الموجهة له. وإلا ما معنى أن تسهم المقاتلات الروسية مباشرة في الغارات الأخيرة التي تستهدف المدنيين في إدلب؟
تركيا تريد جر أمريكا إلى إدلب لكنها لا تريدها في شرق الفرات، وروسيا تريد إضعاف إيران في سوريا لكنها تريد أن تبقى إلى جانبها في مواجهة أمريكا، وإيران تريد أن تهدد واشنطن من أمام طاولة القمة الثلاثية على مرأى ومسمع الأتراك والروس، فمن يصل إلى ما يريد؟
أنقرة تقول إنها لن تسحب جنودها من إدلب إذا ما اندلعت المواجهات هناك، لكنها تقول إن ذلك يعني انهيار اتفاق أستانة، وبداية للشرخ التركي الروسي وتحركها هي نحو مسارات سورية وإقليمية جديدة. فهل تلتزم موسكو وطهران بما يقوله إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئاسة التركية "لن تقدم روسيا والنظام على عملية عسكرية في إدلب والقوات التركية منتشرة هناك"؟
بوتين يقول: "نهاية العام الحالي ستكون نهاية العمليات العسكرية في سوريا"، فعلى ماذا يراهن والتباين التركي الروسي الإيراني في إدلب ظهر أمام الشاشات حتى ولو حاول البيان الختامي التستر عليه؟ بعد قمة طهران الأخيرة تبين فورا انعدام الثقة بين الرؤساء الثلاثة وأن كل شخص سيغني على ليلاه وأن الترويكا الروسية التركية الإيرانية سينفرط عقدها في إدلب شئنا أم أبينا.
أردوغان يقول إن "هدف النظام السوري من شن الهجوم على إدلب ليس محاربة الإرهاب، وإنما القضاء على المعارضة دون تمييز"، لكن الحقيقة الأخرى هي أن النظام السوري وداعميه على وشك الشروع بعمل عسكري واسع النطاق في شمال غربي سوريا، من شأنه، قلب كل المعادلات والتفاهمات في سوريا ونقل المواجهة إلى حرب تركية روسية إيرانية بالوكالة لا يعرف أحد مسارها وحدودها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة