صدر حديثًا كتاب شائق باللغة الإنجليزية، يستحق القراءة النقدية، تحت عنوان "السياسة الخارجية للدول الخليجية الصغيرة" (The Foreign Policy of Smaller Gulf States).
مؤلف الكتاب ماتي زيلاي أستاذ بجامعة كورفيوس في العاصمة المجرية بودابست، وهو مهتم بالشأن الخليجي؛ مع تركيز خاص على خمس دول خليجية فقط هي: الكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات، وعُمان. ويتناول الكتاب السياسة الخارجية لهذه الدول؛ ويطرح سؤالًا مفاده: لماذا اتبعت بعض هذه الدول الخليجية الصغيرة سياسة خارجية نشِطة واستباقية، في حين ظلت دول خليجية أخرى حذرة حيال سياساتها الخارجية والأمنية؟
ويشير مؤلف الكتاب إلى أن نظريات العلاقات الدولية تميز بين دول صغيرة بالمطلق -أي وفق كل المؤشرات السكانية، والجغرافية، والقدرات الجيو-اقتصادية، والجيو-سياسية الحيوية- ودول أخرى صغيرة، ولكن صِغَرها نسبي، وليس مطلقًا من حيث القدرات والإمكانيات المادية والمعنوية؛ فقد تكون دولة ما صغيرة نسبيًّا، ولكنها تملك موارد بشرية متعلمة وجامعية ومنفتحة على العالم، وتتمتع بكفاءة إنتاجية وإبداعية عالية، وتواكب المستجدات العلمية، وتستوعب التحديات المعرفية والتقنية بنجاح ملحوظ؛ وأبرز نموذج على ذلك، وفقًا للكتاب، دولة الإمارات.
وقد تكون دولة أخرى صغيرة ديمغرافيًّا وجغرافيًّا؛ ولكنها تملك موارد طبيعية ضخمة، وقدرات مالية مهولة؛ إضافةً إلى نشاط دبلوماسي إقليمي وعالمي يغطي على صِغَرها النسبي، وأقرب مثال على ذلك دولة قطر، كما يشير المؤلف.
وهذه الدول الصغيرة نسبيًّا لا تتصرف ولا تفكر وكأنها دول صغيرة برغم حجمها المحدود؛ وهذا التمييز بين دول صغيرة نسبيًّا، وأخرى صغيرة بالمطلق، هو إحدى نقاط قوة هذا الكتاب، وربما أهم إسهام نظري يقدمه إلى الأدبيات المتعلقة بالشأن الخليجي.
وإضافةً إلى ما تقدم يقول المؤلف في كتابه -الذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه- إن الصِغَر الجغرافي والديمغرافي لبعض دول الخليج العربية يُعد مصدر قوة؛ لا مصدر ضعف؛ فهو رصيد لهذه الدول أكثر مما هو عبء عليها.
ولكن إضافةً إلى مصطلحَي الصِغَر المطلق، والصِغَر النسبي، ثمة مصطلح ثالث يقدمه هذا الكتاب، ويسميه "الصِغَر الإدراكي"، وهو أيضًا مصطلح جديد يرتبط بسمعة الدولة، وصورتها، ومكانتها، على الصعيد العالمي؛ فسمعة الدولة، ومكانتها، في العالم لا تقلان أهمية عن حجمها ومواردها الطبيعية؛ فمثلًا توجد دول كبيرة الحجم سكانًا ومساحة؛ ولكنها تتصرف كأنها دول صغيرة لا تتمتع بأي حضور يناسب حجمها. وفي المقابل توجد دول صغيرة نسبيًّا، ولكنها تتصرف وكأنها دول كبيرة ذات حضور عالمي، ونفوذ إقليمي، وتأثير دبلوماسي، ونشاط سياسي يفوق ما تقوم به دول بمساحات قارِّية.
وقد تمكنت دول خليجية عديدة -تبدو صغيرة نسبيًّا، ولكنها مستقرة، ومزدهرة، وفاعلة، ونشطة، ومرنة، ومتجددة، ومواكبة للتطورات العالمية المتلاحقة- من بناء سمعة وصور إيجابية، وشبكة واسعة من الصداقات والشراكات. وتعد دولتا الإمارات وقطر أبرز نموذجين على ذلك.
كما يخصص الكتاب حيزًا مهمًّا للحديث عن دولة الإمارات وتميزها عن بقية دول الخليج العربية بنظامها السياسي الاتحادي؛ ولذلك يعرِّج الكتاب في فصله الخامس على أسباب تعثر الاتحاد التساعي بمشاركة قطر والبحرين ودولة الإمارات، الذي كان مقدرًا أن يحمل اسم اتحاد الدول العربية؛ وفق رؤية بريطانية لمرحلة ما بعد انسحابها العسكري من الخليج العربي.
ويقول كتاب "السياسة الخارجية للدول الخليجية الصغيرة" إن دولة الإمارات تمكنت من تجاوز تحديات التأسيس الصعبة، وعبور مخاطر تهديدات الثورة الإيرانية، ومخاطر الحرب العراقية–الإيرانية خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ واستطاعت حماية استقلالها واستقرارها، والحفاظ على مكتسباتها الوطنية، وأسهمت في تشكيل مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
وينتهي الكتاب إلى خلاصة مفادها أن دول الخليج العربية -التي كانت تُعامل بصفتها دولًا صغيرة وهامشية وضعيفة ورجعية، وجرى التشكيك في قدرتها على البقاء والحفاظ على استقلالها- أصبحت اليوم دولًا مستقرة ومزدهرة حققت لشعوبها حياة آمنة وكريمة.
وفي المقابل تراجعت دول عربية كبيرة -كانت تُعرف بأنها تقدمية وثورية وتملك قدرات بشرية ومادية ضخمة- في الآونة الأخيرة في معظم المؤشرات التنموية والمعرفية الحيوية.
ولكن برغم إصرار المؤلف على وصف دول الخليج العربية بأنها دول صغيرة؛ فإنه يدرك فجأة أن دولة الإمارات ليست بالضرورة دولة صغيرة، وذلك في الصفحة (225) من الكتاب المكوَّن من (227) صفحة؛ إذ يقول إن "الإمارات دولة خليجية مرشحة لتصبح قوة إقليمية صاعدة، وواحدة من القوى الوسطى في العالم".
وهذا الإقرار بحق دولة الإمارات -وإن جاء متأخرًا في صفحات الكتاب- يؤكد ما هو معروف على نطاق واسع؛ فدولة الإمارات أبعد ما تكون عن كونها دولة صغيرة نسبيًّا، أو بالمطلق؛ فإمارات القرن الحادي والعشرين لا تفكر، ولا تتصرف، ولا ترى نفسها دولة صغيرة، كما أن العالم لا ينظر إليها، ولا يتعامل معها على أنها دولة صغيرة، بل يتعامل معها بصفتها مركزًا ماليًّا ولوجستيًّا عالميًّا، وقوة إقليمية صاعدة بسياسة خارجية نشطة.
وقد تجاوزت دولة الإمارات حدود المفهوم الأكاديمي التقليدي للدولة الصغيرة لتصبح دولة فاعلة بامتياز؛ الأمر الذي يتطلب البحث عن نظرية جديدة لفهم خصوصية النموذج التنموي والمعرفي الإماراتي، واستيعابه؛ وهو جهد مطلوب من الجيل الجديد من الباحثين في جامعات الإمارات ومراكزها البحثية.
وعلى أهمية الكتاب؛ فإنه يطرح سؤالًا جوهريًّا: لماذا ما زال بعض الأكاديميين الغربيين يُصرُّون على وصف دول الخليج العربية بـ"الصغيرة" برغم أن الواقع تجاوز ذلك؟
وقد تكون بعض دول الخليج العربية صغيرة نسبيًّا؛ ولكنها ليست كذلك بالمطلق؛ فمتى يدرك هؤلاء الخبراء في الشأن الخليجي -وخاصة الجيل الجديد منهم- أن الإمارات ودول الخليج العربية تعيش لحظتها التاريخية في العالم العربي المعاصر، وأنها أصبحت تقود الأمة حتى إشعار آخر؟
المشكلة أن هذا الكتاب، شأنه شأن كثير من المؤلفات الغربية، ما زال أسير الماضي وصورته النمطية عن هذه المنطقة الحيوية من الوطن العربي، من دون استيعاب التحولات البنيوية الضخمة التي جعلت الخليج مركزًا قياديًّا إقليميًّا وعالميًّا؛ ولذلك، وعلى أهمية ما جاء في هذا الكتاب؛ فإن تعامله مع دول الخليج العربية -وخاصة دولة الإمارات– على أنها دول صغيرة، غير مقنع لا على الصعيد النظري، ولا على أرض الواقع.
نقلا عن منصة "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة