تُمثِّل منطقة جنوب آسيا اليوم إحدى أبرز الساحات الإقليمية في صياغة النظام الدولي، بعد أن تحولت من نطاق هامشي إلى فضاء استراتيجي تتقاطع فيه المصالح الدولية والمشروعات الاقتصادية والطموحات الجيوسياسية.
وفي هذا السياق، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة كفاعل إقليمي مؤثر يعتمد مقاربة شاملة ترتكز على دمج أدوات القوة الناعمة، لاسيما الدبلوماسية الإنسانية، مع آليات الشراكة الاقتصادية والاستثمار في استقرار المجتمعات. وعلى خلاف بعض القوى التي وظّفت المساعدات الإنسانية كأداة للضغط السياسي، بلورت الإمارات نموذجًا متقدّمًا من الدبلوماسية الإنسانية المتوازنة، يجمع بين الاعتبارات الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية، حيث تحوّلت تدخلاتها الإغاثية إلى روافد لمشروعات تنموية مستدامة، تعكس فلسفة حضور إقليمي مسؤول، يقوم على استثمار البعد الإنساني لتعزيز الأمن الإقليمي وبناء شراكات استراتيجية طويلة الأمد.
المشاريع الإنسانية والإغاثية الإماراتية في أفغانستان: استثمارات استراتيجية
حرصت دولة الإمارات العربية المتحدة، عبر مؤسساتها الإنسانية والتنموية، وفي مقدمتها هيئة الهلال الأحمر الإماراتي وصندوق أبوظبي للتنمية، على تنفيذ مشروعات إنسانية وتنموية واسعة في أفغانستان، تجاوزت قيمتها 320 مليون درهم، استفاد منها نحو 8 ملايين شخص في مختلف القطاعات.
وفي هذا الإطار، أنشأت الإمارات مدينة الشيخ زايد السكنية في كابول عام 2007 بتكلفة 16.5 مليون درهم، تضم 200 وحدة سكنية، ومدرستين، ومركزًا صحيًا، بما يعكس رؤية متكاملة لتحسين جودة الحياة والخدمات الأساسية. كما أنشأت عام 2008 أكبر مستشفى للأمراض النفسية في البلاد، وقدّمت مساعدات طبية ميدانية عقب زلزال خوست عام 2022، إلى جانب إعادة تأهيل مستشفى الهلال الأحمر الأفغاني المركزي، بما أسهم في دعم البنية الصحية وتعزيز الرعاية الطبية.
وفي قطاع التعليم، افتتحت الإمارات جامعة الشيخ زايد في خوست عام 2008، بتكلفة 4.8 مليون دولار، كمنصة تعليمية تحمل بعدًا تنمويًا واستراتيجيًا، يهدف إلى بناء قاعدة معرفية، وترسيخ علاقات فاعلة مع المجتمع المحلي وقياداته.
وتعكس هذه المشاريع مجتمعة التزام الإمارات بمقاربة تنموية شاملة، تركز على دعم الاستقرار وتعزيز التنمية المستدامة في أفغانستان، في سياق إقليمي يتطلب شراكات جادة تتجاوز الإغاثة العاجلة نحو بناء بنية اجتماعية واقتصادية مستقرة.
باكستان: جسور اغاثية و إنسانية تقود إلى شراكات اقتصادية
أولاً: المبادرات الإنسانية والتنموية الإماراتية في باكستان
أطلقت دولة الإمارات عام 2011 برنامجًا شاملاً لتحسين الظروف المعيشية في المناطق الفقيرة والمتأثرة بالكوارث والإرهاب، لا سيما في إقليم خيبر بختونخوا والمناطق القبلية المجاورة لأفغانستان. شمل البرنامج بناء أكثر من 40 مدرسة ومعهدًا، و12 مركزًا صحيًا، و64 مشروعًا لتوفير المياه النظيفة، بالإضافة إلى صيانة وإنشاء 11 طريقًا استراتيجيًا بطول يفوق 700 كيلومتر، لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
كان للإمارات دور فاعل في حملات مكافحة شلل الأطفال عبر تطعيم ملايين الأطفال في المناطق الشمالية، كما استمرت في تقديم مساعدات إغاثية موسمية من خلال توزيع سلال غذائية وقوافل إغاثة في مواسم الأزمات كالفيضانات والزلازل.
ثانيًا: الاستثمارات الإماراتية في باكستان
عززت الإمارات حضورها الاقتصادي في باكستان عبر استثمارات استراتيجية في قطاعات النقل البحري، والاتصالات، والطاقة، والزراعة، والعقارات. تتولى شركة موانئ دبي العالمية إدارة ميناء قاسم في كراتشي، بينما استحوذت شركة اتصالات الإمارات على حصة كبيرة في الشركة الوطنية للاتصالات (PTCL). كما استثمرت شركات إماراتية في مشاريع توليد الكهرباء والطاقة المتجددة، وقطاع الزراعة في إقليمي السند والبنجاب، بالإضافة إلى تطوير مشاريع عقارية فاخرة في كراتشي ولاهور وإسلام آباد.
تعكس هذه الاستثمارات رؤية إماراتية متكاملة تجمع بين دعم الاستقرار وتعزيز النفوذ في جنوب آسيا، مدعومة بعلاقات وثيقة مع باكستان، إلى جانب دور الجالية الباكستانية الكبيرة في الإمارات كرافد اقتصادي وإنساني.
ثالثًا: العلاقات الإماراتية-الهندية: دبلوماسية التوازن والشراكة
تبنت الإمارات سياسة متوازنة تجاه الهند تجمع بين العمل الإنساني والتعاون الاقتصادي، مع مراعاة الحساسيات الإقليمية. وقد تجسد ذلك في تقديم مساعدات طبية وإنسانية خلال جائحة كوفيد-19، إلى جانب توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة التي رفعت حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 84 مليار دولار سنويًا، مع خطط لتطويره مستقبلاً. (CEPA)
تحتل الهند موقعًا اقتصاديًا واستراتيجيًا محوريًا ضمن استراتيجية الإمارات في آسيا، ويبرز ذلك في مشروع الممر الاقتصادي (الهند-الشرق الأوسط-أوروبا) الذي يهدف إلى إعادة تشكيل ممرات التجارة الدولية وتعزيز مكانة الإمارات كمركز لوجستي واقتصادي عالمي.
الهند: دبلوماسية توازن وشراكة طموحة في زمن التحولات
انتهجت دولة الإمارات في علاقاتها مع الهند سياسة دبلوماسية متوازنة اتسمت بالمرونة والواقعية، جمعت بين العمل الإنساني والتعاون الاقتصادي دون المساس بحساسيات البيئة الإقليمية. وقد تجسّد هذا التوجه خلال الأزمات الإنسانية، ولاسيما أثناء جائحة كوفيد-19، حيث بادرت الإمارات بتقديم مساعدات طبية وإنسانية دعمت الجهود الهندية في مواجهة تداعيات الجائحة.
بالتوازي مع ذلك، حرصت الإمارات على ترسيخ شراكة اقتصادية استراتيجية مع الهند، تُوِّجت بتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، والتي أسهمت في رفع حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين إلى ما يتجاوز 84 مليار دولار، مع تطلع مشترك لمضاعفة هذا الرقم خلال السنوات المقبلة، في إطار رؤية متكاملة لتعزيز الاستثمارات وتوسيع مجالات التعاون.
وتحتل الهند اليوم مكانة محورية ضمن استراتيجية دولة الإمارات في قارة آسيا، بالنظر إلى موقعها الاقتصادي الصاعد ودورها الحيوي في سلاسل الإمداد العالمية. ويبرز في هذا السياق مشروع الممر الاقتصادي (الهند-الشرق الأوسط-أوروبا)، الذي يعكس طموحًا إماراتيًا للمساهمة في إعادة تشكيل ممرات التجارة الدولية، بما يخدم مصالح التنمية والاستقرار الإقليمي، ويعزّز مكانة الإمارات كمركز لوجستي واقتصادي عالمي فاعل.
حضور تنموي فاعل في بنغلاديش ونيبال وسريلانكا
اتسع نطاق الحضور الإماراتي ليشمل دولًا أخرى في جنوب آسيا، من بينها بنغلاديش ونيبال وسريلانكا، حيث حرصت دولة الإمارات على تنفيذ سلسلة من المشاريع الإغاثية والتنموية التي استهدفت تحسين الأوضاع المعيشية وتعزيز البنى التحتية والمرافق الخدمية في تلك الدول.
ويأتي هذا التوجه في إطار سياسة تنموية متكاملة تنتهجها الإمارات، تقوم على تعزيز الاستقرار ودعم المجتمعات المحلية، بعيدًا عن أنماط التدخل التقليدية، بما يرسّخ مكانتها كفاعل إنساني وتنموي إقليمي يسهم في إعادة رسم معادلة النفوذ والتأثير في جنوب آسيا عبر أدوات التنمية والشراكة الإيجابية.
خاتمة: دبلوماسية إماراتية متكاملة برؤية تنموية مستدامة
تُجسّد التجربة الإماراتية في جنوب آسيا نموذجًا متقدمًا للدبلوماسية المتكاملة، التي توفّق بين البُعد الإنساني والمصالح الاقتصادية برؤية ترتكز على الاستدامة وتعزيز الاستقرار الإقليمي. في وقت تهيمن فيه السياسات النفعية قصيرة الأمد على الساحة الدولية، اختارت الإمارات اعتماد نهج استراتيجي يربط العمل الإنساني ببناء الثقة، والشراكة الاقتصادية بتعزيز الحضور الاستراتيجي بعيد المدى.
وبهذا التحوّل من مانح تقليدي إلى شريك تنموي واستراتيجي فاعل، ترسّخ الإمارات موقعها كقوة مسؤولة تُدير حضورها الإقليمي عبر أدوات التنمية والإنسانية، مساهمةً بفعالية في صياغة توازنات إقليمية قائمة على الشراكة والتكامل المستدام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة