أمريكا ظلت تعد بالطرح الشامل والصفقة الكاملة، ولكنها أفسحت المجال لإسرائيل لتقوم بإجراءات انفرادية.
تبدو المنطقة العربية مقبلة على تغييرات عاصفة على مستوى ما يخطط لها سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً، وهو ما تعكف الإدارة الأمريكية ومن ورائها عدد من مراكز البحوث والمراكز الاستراتيجية الأمريكية، لرسم شكل جديد للمنطقة العربية، وبناء تحالفات أكثر وضوحاً واستقراراً ورسوخاً، هذا إلى جانب الإعلان الأمريكي المسبق والمكرر على لسان خبراء الإدارة الأمريكية ورموزها، أن مشروع التسوية الأمريكية المرتقب بات جاهزاً للعرض والطرح، وأنه سيطرح دون مناقشات مسبقة أو مفاوضات مطولة، وأنه كمشروع سيكون منطلقاً لتغيير واقع الإقليم بأكمله، وأنه سيكون أساساً لمرحلة جديدة ستبنى عليها خطوات مرحلية ونهائية.
في كل الأحوال الأيام المقبلة صعبة ليست على الجانب الفلسطيني كما قال محمود عباس في قمة تونس ولكن على العالم العربي الذي يواجه تحديات ومخاطر وسيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، وهو ما يتطلب موقفا عربيا موحدا ورؤية استباقية، واستشرافية لما سيجرى في ظل خيارات صعبة ومعقدة بالفعل.
منذ أكثر من عامين استمر المسؤولون الأمريكيون يروجون لخيار التغيير والانطلاق بالمنطقة إلى مجالات أرحب، والعمل على التوصل لمرحلة أكثر أهمية وقبولاً من الأطراف المعنية، ومع ذلك لم يطرح جديد ولم يناقش ذلك الأمريكيون بشكل جدي سوى عقد عدد من اللقاءات والجولات، وطرح بعض الأفكار العامة، وعدم تقديم أي مسودة واحدة يمكن إطلاق حوار استراتيجي جاد منها، وهو ما جعل الإدارة تدور في دائرة مغلقة لم تبارحها منذ عامين. ومع ذلك استمرت الإدارة الأمريكية داعمة للجانب الإسرائيلي بصورة سافرة، وتم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتم ضم الجولان، وانتقلت السفارة الأمريكية إلى القدس، وتم تصفية وجود الوكالة الدولية "الأونروا" في قطاع غزة.
لقد استمر الجانب الأمريكي يعد بالطرح الشامل والصفقة الكاملة، ولكنه أفسح المجال لإسرائيل لتقوم بإجراءات انفرادية وخلق واقع سياسي وديموغرافي واستراتيجي جديد في الأراضي العربية. وجاء الموقف الفلسطيني رافضاً وحسناً فعل الفلسطينيين، عندما رفضوا المشروع الأمريكي قبل صدوره رسمياً بعد أن تيقين كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية أن الإدارة الأمريكية لن تصدر مشروعاً كاملاً.
في مقابل ذلك كله، كان الدعم الأمريكي للجانب الإسرائيلي، بصرف النظر عن شكل ومضمون الحكومة الجديدة في إسرائيل، بعد أن تهاوت الثوابت التي عملت عليها إسرائيل سنوات، وهو ما يشير إلى أن اسرائيل هي التي ستربح في كل الأحوال، ولن تخسر من أي طرح أمريكي برغم احتمال تحفظ بعض القيادات الإسرائيلية على شكل الطرح.
لا أحد يمكنه الضغط على العالم العربي والجانب الفلسطيني، للقبول بطرح، ومن خلال تصور مسبق ودون مراعاة للحقوق العربية، ولا يمكن أن نراهن على أن الإدارة الأمريكية وانطلاقاً من الواقع السياسي الحالي يمكن أن تقر مشروع التسوية وتحسم مستقبل القضية الفلسطينية، وينتهي الأمر فهذا شأن مستبعد تماماً، فلن يقبل الفلسطينيون والأردنيون والمصريون والسعوديون المضي قدماً في مشروع تسوية جائر أو استبدال الخيارات السياسية بالخيارات الاقتصادية، وحقوق الشعوب التي لا يمكن أن تصفي أو تنتهي بقرار أو موقف، وما تكرر في الماضي من خلق كيانات مصطنعة، ومعدة لن يتكرر تحت أي مسمى، ولا يمكن أن استبدال الأسماء والمخططات بأسماء وألفاظ ومصطلحات جديدة يعني قبولها، فلا توجد في أدبيات السياسة والقانون ما يشير إلى الحصول على الجنسية الاقتصادية للإقامة على أراضي الغير أو منح أراض من دول لاقامة كيانات مرحلية ولا توجد حدود مؤقتة ودول مؤقتة وسيادات متبادلة أو توطين متبادل أو الاستيطان متعدد.
إن الرهان على التغيير من القطاع والتجاوب مع أي طرح أمريكي لن يكون المدخل الحقيقي لتغيير شكل الشرق الأوسط مع الإدارة الأمريكية التي ستستمر إلى ما بعد 2020 في ولاية جديدة، وهو ما يجب الاستعداد والتحسب لتداعياته مع عدم استبعاد تأجيل الإدارة الأمريكية مشروع التسوية ليكون مع بداية ولاية جديدة.
إزاء هذا كله سيكون السؤال المطروح وماذا عن البدائل العربية المطروحة بل الروسية أيضاً على اعتبار أن الجانب الفلسطيني تربطه أواصر من العلاقات الجيدة مع الجانب الروسي، الذي رعي العديد من الاتصالات الفلسطينية مؤخراً، بل سبق أن طرح رؤيته لمؤتمر الشرق الأوسط في موسكو، وهو عضو فاعل في اللجنة الرباعية الدولية، وهو ما قد يدفعه حقيقة إلى الانتقال من دور المراقب للوسيط والمتابع، لا سيما بعد أن قدمت الولايات المتحدة العديد من التنازلات لإسرائيل بلا مقابل.
إن ذلك سيعطي الجانب الروسي مدعوماً بالجانب العربي إلى أن يستبق المشهد ويدخل الي حلبة الوساطة، رغم التوقع بأن الولايات المتحدة وإسرائيل قد تدخلان على الخط وتفشلان أي اتفاق أو تحرك روسي محتمل، مثلما فعلتا ذلك في مؤتمر باريس.
في كل الأحوال الأيام المقبلة صعبة ليست على الجانب الفلسطيني كما قال محمود عباس في قمة تونس، ولكن على العالم العربي الذي يواجه تحديات ومخاطر وسيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، وهو ما يتطلب موقفاً عربياً موحداً ورؤية استباقية، واستشرافية لما سيجرى في ظل خيارات صعبة ومعقدة بالفعل، ومن ثم فإن الانتقال من تلقي الأفكار والمشروعات والمخططات إلى طرح البدائل والسياسات المقابلة، قد يكون هو الحل، فلسنا مجبرين على تلقي سياسات أو توجهات من الخارج.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة