النقاش التركي الأمريكي في شرق الفرات لا يمكن فصله بعد الآن عن أكثر من ملف توتر ثنائي ودخول أكثر من لاعب محلي وإقليمي على الخط.
تشير معظم التقارير العسكرية والإعلامية التركية إلى أن عملية شرق الفرات لا مفر منها، بل إن البعض بدأ يتحدث عن سيناريو التحرك العسكري المرتقب بالإعلان عن أن العمليات العسكرية التركية ستبدأ على شكل استهداف المقاتلات التركية لحوالي 150 موقعا لوحدات حماية الشعب الكردية في شرق الفرات.
ليس فقط حزب العدالة والتنمية هو من يريد مثل هذه العملية قبل الانتخابات المحلية المقبلة بعد 3 أشهر لتعطيه المزيد من الدعم والتعاطف الشعبي، بل حليفه الآخر حزب الحركة القومية اليميني المتشدد هو من يريد تحركا عسكريا من هذا النوع يزيد من شعبيته في البلاد.
كان السؤال دائما يتعلق بمعرفة موعد المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا، لكن يبدو أن مواجهة أمريكية تركية على جبهة شرق الفرات لا مفر منها بعد الآن، رغم عدم معرفتنا بعدُ أي مواجهة ستسبق الأخرى؟
النقاش التركي الأمريكي في شرق الفرات لا يمكن فصله بعد الآن عن أكثر من ملف توتر ثنائي ودخول أكثر من لاعب محلي وإقليمي على الخط، فالتقارب التركي الروسي ورفض أنقرة الإصغاء لما تقوله واشنطن في الموضوع الإيراني في مقدمة قضايا التباعد.
بصورة أخرى، فإن اختبار شمال سوريا في العلاقات التركية الأمريكية يزداد تدهورا وتراجعا لصالح انتكاسة سياسية وميدانية واسعة تطيح بتفاهمات الولاء والالتزام بشراكة معلنة منذ عقود لكنها تعيش أصعب أيامها في هذه الآونة.
القيادات السياسية التركية بدأت تجاهر ودون تردد أن ما ينبغي التصدي له في مناطق حدودها السورية هو ليس تنظيم داعش أو الوحدات الكردية بل الحراك الأمريكي المتزايد على حساب مصالحها ونفوذها هناك، الإدارة الأمريكية بالمقابل تتمسك بالوصول إلى ما تريده هناك حتى ولو كان الثمن تعريض المصالح المشتركة مع أنقرة للخطر.
فهل تسمح أمريكا بعملية عسكرية تركية في شرق الفرات تستهدف خططها وحلفاءها المحليين هناك وهي تعد للإعلان قريبا عن منطقة نفوذ عسكري استراتيجي بإشراف "قوات سوريا الديمقراطية" في الجانب السوري من الحدود مع تركيا؟
يقول الرئيس التركي الذي لم يستقبل المبعوث الأمريكي جيفري خلال زيارته الأخيرة لأنقرة: إن البعض يعتقد أنه بإمكانه إشغالنا بالوعود والقشور، أسلوب المماطلة لن ينفع معنا، وصلنا إلى نهاية الصبر، والعملية العسكرية في شرق الفرات قد تتم غدا أو ربما قبل ذلك.
ويعلن وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" أنه ليس هناك أي تحول حقيقي في المواقف التركية والأمريكية حيال مسار الأمور في شرق الفرات، وهذه الاجتماعات واللقاءات مجرد إضاعة للوقت.. هذا إلى جانب أصوات اليمين القومي المتشدد والمتمسكة بضرورة التحرك العسكري التركي باتجاه جبهات كوباني وتل أبيض والقامشلي؛ لأن خيارات أنقرة تقلصت هناك .
لكن جيمس جيفري الدبلوماسي الأمريكي الذي ينقل الرسائل إلى الأتراك بلغتهم التي يتقنها جيدا، يقول دون تردد ومن أنقرة نفسها :
ما الذي تعدون له وهناك جنودنا جنبا إلى جنب مع قوات التحالف الدولي؟
ونحن نتفهم المخاوف الأمنية لتركيا، لكننا لا نعتبر وحدات حماية الشعب تنظيماً إرهابيًّا، وأن الإدارة الأمريكية الحالية ستواصل العمل مع قوات سوريا الديمقراطية والمكونات الموجودة بداخلها .
ووحدات حماية الشعب الكردية، ستظل تحظى بالدعم الأمريكي العسكري والسياسي والمادي.
داعش غادر المنطقة لكن المشروع الأمريكي في مواجهة التمدد الإيراني لم ينجز بعد.
ولا فائدة من الأستانة الذي يعيش مرحلة الموت السريري .
من الممكن القول طبعا إن العلاقات التركية الأمريكية شهدت تحسنا وتراجعا ملحوظا في التوتر، بسبب أكثر من خلاف ثنائي وإقليمي، وأن السبب في ذلك كان قرار أنقرة الإفراج عن القس الأمريكي آندرو برانسون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، المتهم بالتجسس ودعم التنظيمات الإرهابية.
لكن هناك حقائق أخرى تتقدم على الأرض في شمال سوريا تحديدا: واشنطن متمسكة بوجودها العسكري في شرق سوريا إلى أجل غير مسمى؛ لمواجهة النفوذ الإيراني وتعطيل خطة الممر الإيراني نحو مياه شرق المتوسط في سوريا، وهي تريد حسم مسألة إنهاء وجود التنظيمات الإرهابية ومنع عودتها إلى المنطقة، وإبلاغ أكثر من لاعب إقليمي يرصد المشهد السوري أنها تتقدم في موضوع عرقلة تفاهمات الأستانة وسوتشي على حسابها، ومحاولات التفاهم الثلاثي تضييق الخناق عليها، والتجاهل التركي للمطلب الأمريكي في ضرورة إعلان القطيعة الكاملة مع إيران في الملف السوري .
كيف توافق واشنطن على عملية عسكرية ولو محدودة في شرق الفرات وهي تكرر يوميا على مسامع أنقرة أن الوضع والمعادلات في غرب الفرات يختلفان كليا عن الحالة القائمة في شرقه اليوم، وأفضل مؤشر على ذلك كان عندما تم تحريك الدوريات التركية الأمريكية المشتركة على تخوم منبج، لكن في المقابل كانت الوحدات الأمريكية المتمركزة في شرق الفرات تنفذ عمليات عسكرية مشابهة مع "قوات سوريا الديمقراطية"؟
القيادات السياسية التركية تمني النفس بلعب الورقتين الروسية والإيرانية في أزمتها مع أمريكا في شرق الفرات، لكنها تعرف جيدا أن بديل خطوة من هذا النوع سيكون الارتماء في حضن موسكو وطهران أكثر فأكثر، فهل هي جاهزة عربيا وإسلاميا وأوروبيا لتحمل ارتدادات خطوة من هذا النوع؟
كان السؤال دائما يتعلق بمعرفة موعد المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا، لكن يبدو أن مواجهة أمريكية تركية على جبهة شرق الفرات لا مفر منها بعد الآن، رغم عدم معرفتنا بعدُ أي مواجهة ستسبق الأخرى؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة