في ذكرى رحيله.. يحيى حقي راعي المواهب الأدبية المستمتع بـ"الظل"
يحيى حقي يعتبر ظهور مجلة "الفجر" نتيجة مباشرة لثورة 1919، حيث كان هدفها تحدي الكيان الأدبي الغربي، بالدعوة إلى أدب مصري أصيل.
حين توفي قبل 27 عاماً، طلب يحيى حقي في وصيته أن تُشيع جنازته في صمت، ثم يُعلن خبر الوفاة، دون الحاجة إلى عزاء، ليرحل عذباً كما عاش.
وطوال حياته التي امتدت من 17 يناير/كانون الثاني 1905 حتى توفي في 9 ديسمبر/كانون الأول 1992، انحاز "حقي" لممارسة ثقافية عنوانها المتعة والزهد في الشهرة، والسعي إلى رعاية المواهب.
وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل، قال إنه يشعر بالخجل أن نال الجائزة في حياة "حقي"، الذي كان الأحق بها، بوصفه صاحب الدور الأكبر في التأسيس للقصة والرواية كنوع أدبي جديد، لولا ما بذله "حقي" مع توفيق الحكيم لتأصيل هذا الفن هو وكُتاب "المدرسة الحديثة".
وقام "حقي" في مؤلفاته التي جمعها فؤاد دوارة، بتأريخ دور أعضاء "المدرسة الحديثة"، الذين كانوا يناضلون من أجل الحقوق السياسية والعدل الاجتماعي خلال ثورة 1919 في مصر، وساهم "حقي" في تحرير مجلتهم الفجر (1925 – 1926).
واعتبر "حقي" ظهور مجلة "الفجر" نتيجة مباشرة لثورة 1919، حيث كان هدفها تحدي الكيان الأدبي الغربي، بالدعوة إلى أدب مصري أصيل، يصور الشخصية المصرية ويجسد هويتها.
ونجح "حقي" في جعل كتاباته المتنوعة دروساً في قوة التعبير وبساطته، والكتابة، وبلغت معارفه اللغوية الدرجة التي دفعت علماء اللغة لترشيحه رئيساً لمجمع اللغة العربية، لكنه رفض متمسكاً بـ"العزلة المختارة".
ولد يحيى حقي في 17 يناير/كانون الثاني 1905 بـ"درب الميضة"، خلف "المقام الزينبي" في حي السيدة زينب بالقاهرة، وحصل على (البكالوريا)، من مدرسة الخديوية الشهيرة، والتحق بمدرسة الحقوق العليا في جامعة فؤاد الأول، ورافقه فيها توفيق الحكيم، وحصل على درجة (الليسانس) في الحقوق عام 1925.
وساعدته تجربة العمل بالنيابة والمحاماة في التجول بين مدن مصرية كثيرة، وهو ما ساعده في التأريخ للوجدان القومي، والتأصيل لعاداته اليومية، والالتفات إلى الظواهر اليومية التي تم إهمالها، خاصة في صعيد مصر الذي عاش فيه لعامين.
والتحق "حقي" بوظائف صغيرة في الخارجية المصرية، حيث عمل في القنصليات المصرية في جدة حتى عام 1934، وبعدها نُقل إلى القنصلية المصرية في روما، التي ظل بها حتى إعلان الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول عام 1939.
وعاد يحيى حقي بعد ذلك إلى القاهرة، ليعين سكرتيراً ثالثاً في الإدارة الاقتصادية بوزارة الخارجية المصرية، ومكث بالوزارة 10 سنوات، ترقى خلالها حتى درجة سكرتير أول، حيث شغل منصب مدير مكتب وزير الخارجية، وظل يشغله حتى عام 1949.
وتحول بعد ذلك إلى السلك السياسي، إذ عمل سكرتيراً أول للسفارة المصرية في باريس، ثم وزيراً مفوضاً في ليبيا عام 1953.
وأقيل يحيى حقي من العمل الدبلوماسي عام 1954، عندما تزوج في 22 سبتمبر/أيلول 1953 من أجنبية، وهي رسامة فرنسية تدعي جان ميري جيهو، وعاد إلى مصر ليستقر بها.
وشغل منصب مدير مصلحة الفنون بوزارة الثقافة عند تأسيسها عام 1958، وفي أبريل/نيسان عام 1962، عمل رئيساً لتحرير مجلة "المجلة" المصرية، التي ظل يتولى مسؤوليتها حتى ديسمبر/كانون الأول سنة 1970.
وظل يحيى حقي يقوم بهذا الدور حتى العام الأخير من رئاسته للتحرير، حيث فوض نائبه الدكتور شكري محمد عياد لإدارة المجلة، في خلال الشهور الأخيرة، قبل أن يحتدم الخلاف بينه والمؤسسة ويتركها في أكتوبر/تشرين الأول 1970.
وتولى الدكتور عبدالقادر القط رئاسة تحرير المجلة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1970 حتى قرار أنور السادات بإغلاقها، وإغلاق المجلات التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب في أكتوبر/تشرين الأول 1971، وبعدها بقليل أعلن يحيى حقي اعتزاله الكتابة والحياة الثقافية.
ومن الجوانب المضيئة في حياة صاحب "قنديل أم هاشم"، قدرته على رعاية الأدباء من شرائح عمرية مختلفة، حيث كانت المجلة تحت رئاسته تعيش ذروة مجدها الأدبي، ولعبت دوراً مهماً في تقديم أسماء برزت بعد ذلك في مختلف مجالات المعرفة.
وشكلت هذه الأسماء مرآة لظاهرة اسمها "جيل الستينيات" الذي ظل مديناً لأبيه يحيى حقي، ولندوة نجيب محفوظ التي كان يعقدها أسبوعياً، وكانت أقرب إلى ورشة من ورش الكتابة بطابعها المعروف الآن.
وحافظ يحيى حقي على تنوع إنتاجه الأدبي ما بين كتابة القصص، والروايات، والمقالات الأدبية المتنوعة في صحيفتي "التعاون" و"المساء"، وقاوم ضغوط محمد حسنين هيكل للالتحاق بجريدة الأهرام ضمن كتابها الكبار، لكنه فضل الاستمتاع بالبقاء في الظل.
وحصل يحيى حقي عام 1969 على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، ومنحته الحكومة الفرنسية عام 1983، وسام الفارس من الطبقة الأولى، ومنحته جامعة المنيا عام 1983 الدكتوراه الفخرية، اعترافاً من الجامعة بريادته وقيمته الفنية الكبيرة.
وكان "حقي" واحدًا ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل العالمية، فرع الأدب العربي، لكونه رائداً من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990.