بالرغم من أن عودة السفير التركي لإسرائيل تفهم في سياقات محددة متعلقة بالأهداف التركية المباشرة.
ومحاولة التقارب مع الجانب الأمريكي، فإن التفاعل الإسرائيلي على الخطوة التركية جاء مشوبا بالحذر والتحسب للهدف التركي في توقيت تتحرك فيه إسرائيل في دوائر متسعة ومتعددة في الشرق الأوسط، حيث تكشف تطورات العلاقات الإسرائيلية التركية الحالية عن جملة من التعقيدات الحقيقية، وعلى رأسها أنه لن يتم استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين تركيا وإسرائيل في الوقت الراهن، بل في شهر مارس المقبل، حيث إن حالة التجاذب السياسي بين الطرفين لا يمكن أن يتم حلها من جولة أولى، أو من خلال تحركات مفاجئة، وعلى اعتبار أن التطور الراهن في مسار العلاقات التركية الإسرائيلية يتم في سياق الوقت المستقطع الذي يستبق وصول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض، الرئيس المنتخب جو بايدن.
كما أن هذا التطور يتزامن مع ما يشهده شرق المتوسط من توتر في الصراع التركي- اليوناني، والذي كانت له عدة تبعات في الأسابيع الماضية، وصلت إلى حد فرض عقوبات أوروبية على أنقرة، إضافة إلى أن بقاء الوساطة التي يقوم بها الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بين تركيا وإسرائيل في دائرة محدودة وضيقة، رغم المعلن من أن هناك رهانات على الجانبين، وأن الوقت مناسب لتحقيق المصالحة بين تركيا وإسرائيل في ظل المصالح المشتركة، والفوائد التي يمكن أن يحققها البلدان في ظل العلاقات العسكرية والاقتصادية المتميزة.
والواقع المشاهد أن إسرائيل تبدو غير معنية، في كل الأحوال، بالتفريط في علاقاتها مع كل من اليونان وقبرص من أجل إصلاح العلاقة مع تركيا، والتي تتميز علاقاتها دائما بالتوتر والتجاذب، وهو أمر معتاد في مسارات العلاقات في منظومتها الكاملة، كما أن الشروط التركية لإتمام المصالحة مرتبطة بأمور وملفات متعددة، منها شرق المتوسط، وبالتالي اعتراف إسرائيل بالاتفاقية التركية - الليبية، واعترافها أيضا بكل حقوق أنقرة في شرق المتوسط.
ولا يمكن استبعاد مواجهة تركيا عقوبات اقتصادية مزدوجة من الولايات المتحدة على أرضية شِراء أنقرة منظومات صواريخ "إس 400" الروسية، ومن الاتحاد الأوروبي الذي يدعم اليونان وقبرص في النزاع الحدودي المائي المُتعلق بمخزون الغاز والنّفط، وفي ظل تخوفات لتركيا، كإسرائيل من الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن الذي سيغير بالنسبة لتركيا موازين القوى ضدها، حيث أشار بايدن في مقابلة له في أغسطس 2020 إلى أنه في حال أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية فإنه سيدعم المعارضة التركية، وأنه يجب إيجاد طريقة لعزل تحركات تركيا في المنطقة، خاصة في شرق المتوسط، كما أن الحكومة الإسرائيلية لم تقدم ردا إيجابيا على المبادرة التركية لتحسين العلاقات، واشترطت لتحقيق ذلك أن تقوم تركيا بتخفيف دعمها لحركة حماس، وأن توقف تشجيع نشاطها العسكري.
وسيرتبط أي تقارب في العلاقات بين إسرائيل وتركيا بثلاثة اعتبارات مستجدة؛ أولها: شكل التحالفات الجديدة التي قامت بها إسرائيل في الشرق الأوسط مؤخرا، خاصة أن الخريطة الجيوسياسية الجديدة تملي على الجانب الإسرائيلي ردا أكثر حذرا من التوجه التركي المعلن، حيث تجد إسرائيل نفسها في موقف يتعين عليها التشاور مع أصدقائها الجدد، وتنسيق المواقف معهم فيما يتعلق بالعلاقات مع تركيا، حيث توصلت إسرائيل إلى اتفاقات سلام مع خمس دول عربية منذ أغسطس الماضي، وهي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
ثانيها: قراءة مستفيضة بحجم التطورات الراهنة هيكليا في الإقليم، فعلى الرغم من انتقاد الجانب التركي لخطوة دولة الإمارات العربية بتوقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، فإنه بدا أكثر تجاوبا بشأن إقامة المغرب علاقات مع إسرائيل، حيث قال وزير الخارجية التركي إن لكل دولة الحق في إقامة علاقات دبلوماسية مع مَن تريد، ما يؤكد أن إعادة ترتيب الحسابات التركية يجري وفقا لقاعدة متغيرة مصلحية في المقام الأول.
ثالثها: عضوية إسرائيل في منتدى غاز شرق المتوسط، يمكن أن يحبط خطة تركيا لتصبح مركزا إقليميا لتسويق الغاز لأوروبا، حيث تمر تركيا بأزمة اقتصادية منذ أكثر من عامين، خاصة بعد العقوبات الأمريكية على بيع الأسلحة التركية بمكونات أمريكية، والقيود التجارية مع أوروبا التي تمت الموافقة عليها في قمة الاتحاد الأوروبي مؤخرا والتي قد تضر بالاقتصاد التركي.
والواقع أن إسرائيل لن تكتفي فقط بأخذ الاعتبارات الإقليمية في تعاملها مع تركيا في الفترة المقبلة، بل إنها تطرح شروطاً على أنقرة يتوجب الوفاء بها قبل إصلاح العلاقة الثنائية، خاصة أن علاقة تركيا بحركة حماس تمثل عائقا حقيقيا أمام إصلاح العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، كما يمكن اعتبار عروض أردوغان بالتقارب مع الجانب الإسرائيلي مناورة حقيقية، وتكتيكا يستهدف في محصلته نسف التحالفات الإقليمية التي نجحت إسرائيل في تكريسها مع كل من قبرص واليونان ومصر.
وعلى الرغم من تعبير الرئيس التركي شخصياً عن رغبته في تحسين العلاقة مع تل أبيب، فإن هناك محدداً ثابتاً يحكم توجهه الرئيسي والذي لا يخفي على الجانب الإسرائيلي، وهو ما يصفه بـنهج العثمانية الجديدة التي تتكرس بادعاء تركيا الدفاع الشكلي عن كل الدول العربية والإسلامية، وأنه ليس في حكم الوارد بالنسبة لتركيا أن يقود تحسين العلاقة مع إسرائيل إلى استئناف العلاقة الأمنية والمناورات العسكرية.
من الواضح أن المصالح الاستراتيجية المشتركة بين أنقرة وطهران هي إحدى المعادلات المعنية التي من شأنها أن تتأثر بوصول الرئيس الأمريكي للحكم في البيت الأبيض، في ظل التوقع بتغيّر العلاقات بين طهران واشنطن على وقع التطورات المتوقعة والمتعلقة بالملف النووي، فمن شأن هذين التطورين أن يدفعا أردوغان إلى مراجعة تحالفاته الإقليمية، ومن ثم علاقاته المتوترة مع إسرائيل وصولا إلى كسب ود الإدارة الأمريكية الجديدة التي تعارض سياسات أردوغان في ملفات مهمة كالملف الليبي وكذلك الملف السوري.
لذا، يدرك أردوغان أن إسرائيل تشكل أفضل مقاربة لتحسين العلاقة مع إدارة بايدن، والتوصل إلى تفاهمات مع واشنطن بشأن صواريخ إس – ٤٠٠ التي بسببها فرضت واشنطن عقوبات على الصناعات العسكرية التركية، خصوصا أن مواضيع عدة ستواجه تركيا، ومنها قضية الأكراد والإنسان والمعارضة والاتحاد الأوروبي والحدود البحرية مع اليونان، كما أن التقارب بين المغرب وإسرائيل يمكن أن يؤثر سلبيا على العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل، خصوصا أن الكثير من المنتجات يمكن لإسرائيل أن تستوردها من المغرب بدلا من تركيا، وهكذا ستظل معادلة العلاقات التركية الإسرائيلية معقدة ومتشابكة ولن تنجح تركيا في إحداث اختراق حقيقي في مسار العلاقات المشتركة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة