"مليانة" الجزائرية.. زارها ابن بطوطة وعشقها الإدريسي
مدينة مليانة من أقدم المدن الجزائرية، تأسست في القرن 27 ق.م، زارها ابن بطوطة وعشقها الإدريسي.. شاهدوا صورها
تغنى العالم المسلم والأديب والشاعر "أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي" المعروف بـ "الإدريسي"، بواحدة من أجمل وأقدم المدن الجزائرية التي تعاقبت عليها عديد الحضارات، وهي مدينة مليانة.
- بالفيديو .. قسنطينة عاصمة الجسور المعلقة والصخر العتيق
- بالفيديو.. القصبة في الجزائر.. حي أثري يروي تاريخ دولة
فسِحر المدينة التي زارها الإدريسي جعله يتغنى بها، ويصفها "بالمدينة التي لا نظير لها، والمستندة على واحدة من أجمل وأكبر السلاسل الجبلية في الجزائر"، وهي جبال "زكار" الواقعة في مدينة "عين الدَّفلى" بوسط الجزائر، ويبلغ طول أعلى قمة بها 1550 متراً، وتسمى قمة "الرَّيَّاشة".
وواصل الإدريسي التغزل بمدينة "مليانة" الجزائرية في أشهر كتبه "نزهة المشتاق"، وقال في إحدى صفحاته: "هي مدينة صغيرة حصينة على نهر صغير، عليه عمارات متصلة وكُروم بها من السفرجل كل بديع، ولها سوق وحمَّام، وسوقها يجتمع إليه أهل الناحية، وقد تردد عليها الرحّالون فأجمعوا على محاسن الموقع وكثرة المياه ورخاء العيش، فهي من أخصب بلاد أفريقيا وأرخسها أسعاراً، وحولها تعيش قبائل كثيرة من البربر".
فما هي هذه المدينة الجزائرية التي "ليست ككل المدن"، وأدهشت الإدريسي والرحالة العربي ابن بطوطة والتازي والحسن بن وزان، وجعلها مؤسس الدولة الجزائرية "الأمير عبد القادر" مستقراً له، وقائد المقاومة الشعبية الجزائرية فترة الاستعمار الفرنسي "الأمير خالد الجزائري" مهداً لمقاومته الباسلة؟
موقع "مليانة"
تقع مدينة "مليانة" التابعة لمحافظة "عين الدَّفْلى" وسط الجزائر، وتبعد عن العاصمة الجزائرية بـ 118 كلم غرباً، ومرتفعة بـ 720 متراً فوق سطح البحر.
ورغم أنها منطقة جبلية إلا أنها أيضا تتوسط جبال "الوَنْشَريس" في جهتها الجنوبية وجبال "الظَّهْرة" شمالاً، وهو الموقع الذي جعل منها منطقة استراتيجية "بامتياز" لكل الحضارات التي تعاقبت عليها.
موقعها الجبلي كذلك، أبهر كل من زارها، بديكوراتها الطبيعية الخلابة، وأرضها التي لم تبخل عبر التاريخ بكل ما يمكن لها أن تجود به من فواكه، أبرزها الحمضيات والكرز والعنب، ومختلف أنواع الخضر، وما زادها جمالاً تلك المنابع المائية والوديان والحمامات التي "لم تجف" من قرون.
تاريخ "مليانة"
"مَلْيانة" من أقدم المدن الجزائرية والعربية، وتأسست في القرن "27 قبل الميلاد" من قبل الإمبراطور الروماني "أوكتافيوس زوكابار"، وهو الاسم القديم لمدينة "مليانة".
اتخذ الإمبراطور الروماني من "مليانة" حامية عسكرية، وكان أول من قراً الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، بعد أن انتبه لعلوها المرتفع وطرقها المتفرعة إلى مناطق عدة.
- بالفيديو.. "غــرداية".. تعرف على عاصمة الأصالة الجزائرية
- مدينة غوفي الجزائرية.. شبيهة "كولورادو" المنسية
مكث الرومان أطول مدة يمكن لحضارة وقوة عسكرية أن تمكثها في مليانة، إلى غاية عام 972 ميلادي عندما دخلها "الصنهاجيون"، وأعاد بناءها أشهر الأمراء الصناهجة "بولوغين بن الزيري"، وجعلها العاصمة السياسية للدولة الصنهاجية في المغرب العربي، وشهدت في تلك الحقبة قمة ازدهارها في الزراعة والتجارة.
وفي عام 1081 ميلادي، دخل المدينة المرابطون واستولوا على كامل أطرافها، لتتعاقب بعدها أمم وحضارات أخرى، مثل الموحدين عام 1149 ميلادي، والزيانيين عام 1308 ميلادي، ثم بقيت إمارة مستقلة إلى غاية دخول العثمانيين الجزائر عام 1514 ميلادي، وبقيت معهم مدينة "مليانة" واحدة من أهم مدنها في الجزائر.
وظلت المدينة في العهد العثماني تابعة لما يعرف بـ "بايلك الغرب" الذي يضم مدن تلمسان وهران ومستغانم.
وتذكر الدراسات التاريخية، أن أصل غالبية سكان المدينة من الأمازيغ، وامتزجوا مع سكان الأندلس الذين فروا إلى الجزائر بعد سقوط غرناطة سنة 1492 ميلادي.
وتشتهر مدينة "مليانة" الجزائرية بأنها كانت قبلة لأشهر الرحالة العرب، أشهرهم "بن بطوطة" الذي توقف بها قبل توجهه لمدينة تلمسان (غرب الجزائر)، ومكث بها مرة أخرى وهو في طريق عودته إلى مدينة صفاقس التونسية.
فترة الاستعمار الفرنسي
بعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 ميلادي، لجأ إليها "مؤسس الدولة الجزائرية" وهو "الأمير عبد القادر بن محي الدين"، وكان ذلك عام 1835 ميلادي، وجعلها حصناً منيعاً لثورته الشعبية الأولى ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وكانت مقراً لمؤسسات دولته السياسية والعسكرية، أبرزها مصنع الأسلحة خاصة البنادق والرماح، وكان منجم جبال "زكار" يضمن المادة الأولية للأسلحة.
غير أن صمود الأمير عبد القادر لم يدم إلا 5 سنوات فقط، إذ قاد الماريشال الفرنسي "فالي" حملة عسكرية واسعة للاستيلاء على "مليانة"، لكنه قوبل بمقاومة شعبية عنيفة وحرب ضروس قادها خليفة الأمير عبد القادر في المدينة "محمد بن علال بن مبارك"، وألحقت بالجيش الفرنسي خسائر مادية وبشرية كبيرة باعتراف القائد الحربي الفرنسي "كاستيلا"، الذي ذكرت الدراسات التاريخية أنه قال حينها: "إن الجيش الفرنسي تلقى أشد الخسائر أكثر من أي حملة فرنسية في بلاد إفريقيا".
غير أن الاستعمار الفرنسي تمكن من دخول أجزاء من المدينة في 08 يونيو 1840، وواصل معها الاستعمار الفرنسي محاولاته لاحتلال كامل المدينة بحملة أخرى قادها من يعرف "بسفاح فرنسا" وهو "الجنرال بيجو" عام 1841، لكنه تعرض لخسارة مذلة وصفها قادة الاحتلال بـ "أول هزيمة وقعت للماريشال بيجو منذ دخوله الجزائر"، إلى أن سقطت كاملة بعد استشهاد قائدها محمد بن علال في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1843.
ومع انطلاق الثورة التحريرية الجزائرية في الأول نوفمبر/تشرين الثاني 1954، قدمت مدينة "ميلة" مئات الشهداء وقادة الثورة التحريرية، أبرزهم "علي لابوانت"، "أحمد بوقرة"، ومؤسس الكشافة الإسلامية الجزائرية "محمد بوراس".
متحفا "مليانة"
يمكن تسمية متحف المدينة الأول "بعربة الزمن" التي تنقل الزائر إلى كل الحقب والحضارات التي مرت على "مليانة"، وسمي بمتحف الأمير عبد القادر، وهو واحد من أشهر المقاومين والمحاربين في التاريخ العربي.
ومتحف الأمير عبد القادر بناية عثمانية قديمة، وكان مقراً لإقامة القادة العثمانيين، وحوَّله الأمير عبد القادر لمقر خليفته في الفترة ما بين 1835 و1840 م، وكان من أشهر المباني التي أصر نابليون الثالث على زيارتها عام 1865 ميلادي، لتحوَّل عام 2000 إلى متحف.
ويتشكل المتحف من طابقين وخمس قاعات كبرى تختصر التاريخ العريق للمدينة، وتوجد به قاعة للآثار الرومانية، قاعة المخطوطات والإثنوغرافي، قاعة المقاومات الشعبية، قاعة التراث المنجمي، وقاعة حرب التحرير الجزائرية.
وتعتبر مدينة "مليانة" الوحيدة في الجزائر التي تضم متحفين، حيث يوجد بها متحف آخر كان عبارة عن مصنع للأسلحة أقامه الأمير عبد القادر عام 1835، ويتكون من ثلاثة طوابق.
ساعة "مليانة".. ما تبقى من جامع "البطحاء"
من أشهر المعالم التاريخية والدينية في مدينة مليانة والجزائر يوجد مسجد أو جامع "البطحاء" الذي بناه العثمانيون، "لكن قبل دخول الاستعمار الفرنسي"، الذي دمر المسجد سنة 1844 م، ولم يترك منه إلا منارته التي حوّلها إلى ساعة، وجعل من أرضية المسجد ساحة كبيرة أطلق عليها تسمية "ساحة كارنو".
- بالفيديو.. "بني عاد" الجزائرية.. ثاني أكبر مغارة في العالم
- بالصور.. التبرعات تحول قرية "تيفَرْدُودْ" إلى "أنظف" قرى الجزائر
وبعد استقلال الجزائر، جعل سكان "مليانة" من مكان تواجد الساعة منطقة لإقامة الاحتفالات الدينية خاصة في المولد النبوي الشريف، حيث تجتمع العائلات حولها، تقديراً لماضيها ووزنها الديني والتاريخي.
الولي الصالح سيد أحمد بن يوسف
أنجبت مدينة "مليانة" واحداً من أشهر علماء الجزائر وأوليائها الصالحين وهو "سيد أحمد بن يوسف" (1436 – 1524)، الذي يعود نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب بحسب ما أكدته وثائق رسمية.
ويوجد في "مليانة" مسجد باسم الولي الصالح، وكان منذ استقلال الجزائر مزاراً لسكان المنطقة، غير أن السلطات الجزائرية أغلقت مكان تواجد ضريح الولي الصالح "سيد أحمد بن يوسف" بعد كثرة الطقوس فيه، والتي يقول بعض من سكان المنطقة بأنها تسيء للولي الصالح وللمجتمع الجزائري.