وسط نيران الكراهية التي أججت مشاعر العنف والغضب وأسالت الدماء، تواجد رجلان في زمن صعب، رجلان التقت قناعاتهما على رفض إزهاق الأرواح
قبل نحو ثمانية قرون، وعلى أرض مدينة دمياط على ساحة البحر الأبيض المتوسط، كانت تدور رحى إحدى المعارك الحامية بين الفرنجة والمسلمين، وذلك ضمن الجولة الخامسة من جولات ما أسماه العرب حروب الفرنجة، فيما أطلق عليه الجانب الآخر من المتوسط، الحروب الصليبية.
غير أنه وفي وسط نيران الكراهية التي أججت مشاعر العنف والغضب وأسالت الدماء، تواجد رجلان في زمن صعب، رجلان التقت قناعاتهما على رفض إزهاق الأرواح، وعلى صنع السلام وبث الأمن والأمان في نفوس الناس، ووقف مشاعر العداء بين الجانبين.
قبل نحو ثمانية قرون كان حاكم مصر هو السلطان الكامل الأيوبي ابن الملك العادل الأيوبي يدافع عن بلاده ضد غزوات الخارج، وقبل أن يحتدم الصراع وتدور أعمال المعركة النهائية التي سيكتب فيها النصر المبين لجنود السلطان، فوجئ حراسه بأن هناك رجلين فقيرين لا يتحدثان العربية، بل بلسان مضعضع ينطقان: "سولدان، سولدان"، وكانت الكلمتان كافيتين لأن يفهم من حولهما أنهما يتطلعان إلى لقاء الحاكم، مع ما في ذلك من شكوك في هويتهما، وهما من يأتيان من جانب معسكر الأعداء.
لقد بدا واضحا أن الرجلين يسعيان إلى عمل من أعمال السلام لا الحرب، فلا ملابسهما تدل على أنهما جاسوسان، ولا يحملان شيئا يشير إلى نواياهما السيئة، حتى ملابسهما ليست ملابس الجنود، بل هي ملابس الزهاد والمتصوفين.
لم يترك الأسيزي والسلطان وثيقة بعينها، في حين أن رجلين من زماننا قدما للعالم وثيقة الأخوة الإنسانية، لتكون نبراسا في طريق الوفاق ودربا يباعد بيننا وبين الافتراق، وما بين رجلي الماضي قبل ثمانية قرون ورجلي زماننا، تسعى البشرية إلى من يقدم لها يد العون لانتشالها من وهدة الألم إلى الراحة
بضعة أسابيع التقى فيها فرنسيس الأسيزي، ذلك الناسك الإيطالي الذي سيضحى رمز التواضع والسلام لمدى الأجيال ورفيقه الأخ اللوميناتو مستشاره في حله وترحاله، مع السلطان الكامل الرجل الذي رضع معرفة الآخر من شيوخ الصوفية المصرية، وعرف أن التعددية حكمة سماوية، وأنه: "لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"، ولهذا رحب به، ودارت بينهما حوارات معمقة في كافة أوجه الحياة، أدرك السلطان من خلالها أن هناك من يرفض الحرب من الفرنجة مثله.
تعلمنا التجارب الحياتية أن من يوسوس في أذن الملك، كثيراً ما يكون أهم من الملك، وربما كان هذا حال ديدن السلطان الكامل، فقد كان تلميذا لأحد الأقطاب الصوفية الكبرى في مصر، الشيخ فخر الدين الفارسي تلميذ القطب الصوفي الأكبر "أبو الحجاج الأقصري".
أثمر الحوار والجوار بين الرجلين خبرة إيمانية وإنسانية عميقة وغير مسبوقة عن الآخر، فلم يعد فقط العدو، بل باتت هناك فرصة لأن يكون الآخر صديقا ورفيقا على درب بث السلام والطمأنية حول العالم، وبشكل خلص في ظل اشتعال الحروب.
لقد اكتشف السلطان أن هناك أرضيات مشتركة كبرى مع فرنسيس أكثر مما هو متخيل، كان فرنسيس يستمع إلى أذان الصلاة والنداء "الله أكبر الله أكبر"، ويردد في قلبه معاني مشابهة من صلوات المزامير المسيحية، ليمضي الرجلان في تجربة عناق روحي طويل وعميق، وليحاول السلطان لاحقا تقديم الهدايا لفرنسيس، لكن الأخير يرفض الذهب والفضة، ولا يحتفظ إلا ببوق صغير يستخدمه في إيقاظ رفاقه للصلاة في توقيت مواكب لصلاة الفجر كما رآها عند المسلمين.
على شاطئ مدينة دمياط الأيام القليلة الماضية، كانت جماهير من مسلمي ومسيحيي مصر تحتفل بهذه الذكرى التاريخية، والسؤال على الألسنة ما الذي قدمه فرنسيس والسلطان من نموذج وضاء للعالم القديم؟
الشاهد أن فرنسيس حمل إلى السلطان شهادة عن مسيحية المحبة لا مسيحية الحروب، مسيحية تخدم البشرية في سعيها لقول الحقيقية، فقد كان فرنسيس الأسيزي يصيح بأعلى صوته في معسكر الصليبيين بأن خطايا جنود الفرنجة هي ما يسد الطريق إلى أورشليم، وليس المسلمين، وحذر كثيرا من أن الفرنجة سيخسرون المعركة، وسيتكبدون الآلاف من الأرواح البريئة، وهو ما جرت به المقادير بالفعل.
حمل فرنسيس إلى السلطان شهادة إيمان وحب وسلام، فكان جواب السلطان إعجابا بالشهادة، وانبهارا بالبساطة، وترحيبا بالسلام، إن هذا اللقاء العابر بين القديس والسلطان حقق بالمحبة ما يفوق أكثر من أربعين معركة حربية تسال فيها الدماء، وغير مسيرة تاريخ العداء وسفك الدماء إلى رؤية جديدة للعلاقة بين الشعوب وبين الأديان، إنه الحب، إنها القداسة التي انعكس تأثيرها الإنساني والإيماني على السلطان الكامل.
أحد أهم الأسئلة التي طرحت خلال احتفالات مصر الأيام الماضية بهذه الذكرى: "هل يكرر التاريخ نفسه؟"، بمعنى هل أفرزت أيامنا الحالية رجلين آخرين عهد إليهما بتغيير العالم مثلما الحال من قبل مع الأسيزي والسلطان؟
يعلمنا كارل ماركس أن التاريخ لا يكرر نفسه، فلو فعل ذلك لأضحى في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، ومع ذلك يمكن القطع بأن أحداث التاريخ يمكن أن تتشابه، وهذا ما حدث بالفعل بداية شهر فبراير/شباط الماضي على أرض الإمارات العربية المتحدة، حيث التقى رجلان يمكن أن نطلق عليهما وبثقة لا حدود أنهما طيبان خيران ومغيران، في زمن صعب.
جاء الأسيزي والسلطان في زمن الحروب الصليبية، وأرض الإمارات احتوت فرنسيس آخر جاء من الفاتيكان، والشيخ الطيب جاء من الأزهر، بإرادة وقيادة إماراتية تسعى لإعادة الأخوة للإنسانية بوصفها وجها من وجوه النقاء البشري المفقود.
ولا شك أنه زمن صعب يعيش فيه البابا فرنسيس والإمام الشيخ الطيب، ووجه الصعوبة لا يأتي من الحروب والصدامات العسكرية المباشرة، بل مما هو أسوأ وأخطر منها، فها نحن نجد على الجانب الأوروبي صحوة غير بريئة للقوميات واليمينيات المتطرفة، وشرقا نجد أصوليات وراديكاليات مغرقة في الدموية، وكلاهما يهدد بتحويل العالم إلى ساحة من الحروب المقيمة.
لم يترك الأسيزي والسلطان وثيقة بعينها، في حين أن رجلين من زماننا قدما للعالم وثيقة الأخوة الإنسانية، لتكون نبراسا في طريق الوفاق ودربا يباعد بيننا وبين الافتراق، وما بين رجلي الماضي قبل ثمانية قرون ورجلي زماننا تسعى البشرية إلى من يقدم لها يد العون لانتشالها من وهدة الألم إلى الراحة والشفاء.
العداء لا يفيد، والكراهية لا تبني، وحده السلام يبني ويجدد، ويقيم حصون المودة، ويهزم أسوار الكراهية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة