جماعة الإخوان المسلمين تجاوزت فكرة ممارسة العنف بكل صوره وأشكاله إلى فكرة أخرى ارتبطت بصياغتها كل قواعد التطرف الديني التي سارت فيما بعد ضمن الأسس الهيكلية لبناء التنظيمات والمليشيات الدينية المتطرفة.
فالإخوان تجاوزوا فكرة ممارسة العنف إلى التأصيل الفكري والفقهي، واضعين المنطلقات الفكرية التي تمثل الروح بالنسبة للجسد والعصب بالنسبة لحركة التنظيمات والمليشيات المسلحة. إن الجماعة هي المشغل الفعلي والرئيسي لمجموعات العنف الديني في العصر الحديث، وبالتالي أي مواجهة لهذه التنظيمات لا بد أن تبدأ مما طرحه تنظيم الإخوان.
وهنا تبدو خطورة الإخوان في أنهم ليسوا مجرد جماعة تمارس العنف، بل إنهم تنظيم وضع كل قواعد وأسس العنف التي استقتها الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي ظهرت بعدها، فهي أصّلت لمفاهيم العنف في آخر عشرة عقود ماضية، كما أنها وضعت تأصيلًا فقهيًا لـــ10 عقود قادمة!
الإخوان أصّلوا لمفاهيم العنف عبر الأدبيات التي تركها التنظيم خلال المائة عام الأخيرة بدءًا من المؤسس الأول حسن البنا والثاني سيد قطب وانتهاءً بقادة التنظيم ومرشديه ومفتيه الذين صاغوا هذه الأفكار حتى بات لها روحٌ من خلال الممارسة العملية خلال المائة عام الأخيرة من عمر التنظيم.
وتنطلق أزمة المجتمعات العربية في التعامل مع الإخوان المسلمين من منطلقين؛ أحدهما مرتبط بعدم إمكانية تهذيب الإخوان، لأنّ خطر التنظيم مرتبط بأفكاره وليس مستوى ممارسة السلوك. هذا الخطر تجاوز مرحلة الممارسة إلى التأصيل وبناء هياكل التطرف الديني واستنساخ مجموعات متطرفة على المستويين الفكري والفقهي، ولعل كل التنظيمات المتطرفة التي ظهرت في المائة عام الأخيرة كان الإخوان الدليل الفقهي والفكري لهم.
وضع حسن البنا، المؤسس الأول، بذرة التنظيم في مارس/آذار من عام 1928، واهتم بالسلوك، وتراه أدبيات الجماعة أنه نجح في بناء تكتل تنظيمي هو المعني بعودة الخلافة الإسلامية بعدما سقطت في عام 1924، إثر فشل الأئمة الأربعة، وفق هذه الأدبيات، في الإجابة عن مسألة فقهية متخيلة وقد تحققت بالفعل، ألا وهي: كيف يعمل المسلمون إذا ما سقطت خلافتهم؟
وهنا ذكرت مرويات الإخوان، أنّ الجماعة نجحت في إعادة بناء هذه الخلافة عبر تشييد هياكل التنظيم في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، ولاحظ هنا، أن شكل الدولة والمسماة بالخلافة الإسلامية، يعتبرها التنظيم أحد أهم الأصول الغائبة التي تستوجب العمل لعودتها.
لذلك جاء دور المؤسس الثاني للتنظيم وهو سيد قطب، الذي وضع فيما بعد قواعد البناء الفكري للجماعة التي أثرت أسس التطرف عبر كتاباته المتعددة؛ فالرجل كان مسؤولًا عن قسم نشر الدعوة داخل مكتب إرشاد الإخوان، الذي يُمثل أعلى سلطة تنفيذية داخل التنظيم، فنجح في صياغة أفكار العنف، التي مثلت هي الأخرى إحدى أهم ركائز الجماعة عبر العقود العشرة الأخيرة، كما أنها تمثل أهم ركيزة لأسس التطرف الديني.
وهنا سار الإخوان بين الممارسة المرتبطة بسلوك التنظيم العنيف عبر المليشيات المسلحة التي شكلتها الجماعة في بداية الأربعينيات من القرن الماضي تحت اسم النظام الخاص الذي مارس العنف، فضلًا عن تأصيله، والمليشيات المسلحة التي تم تشكيلها بعد عام 2013 تحت اسم حركات "سواعد مصر.. حسم" و"لواء الثورة" و"المقاومة الشعبية" وغيرها؛ فعنف الإخوان تعدى الممارسة إلى التأصيل.
كما أن التنظيم استمر على الأفكار التي طرحها سيد قطب ولم يتخلَّ عنها، بل أعلى منها حتى تسربت إلى كل الجماعات والتنظيمات الوليدة، فكانت بمثابة عصب كل الجماعات المتطرفة مثل الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد الإسلامي، اللذين شكلا فيما بعد تنظيمي القاعدة وداعش، وبعدها بايعت تنظيمات محلية وإقليمية في كل دول العالم هذين التنظيمين، إثر تأثرها بأفكارهما المستقاة أساسًا من أفكار الإخوان.
ولذلك تعود كل أفكار التنظيمات المتطرفة في نسبها إلى جماعة الإخوان المسلمين فهي بمثابة الرحم التي خرجت منها أغلب التنظيمات أو الثدي الذي أرضع بعضها، وهنا يبدو الارتباط الجيني بين الإخوان وهذه التنظيمات رغم أن أغلبها ربما نافس الإخوان في ممارسة العنف، خاصة أنّ الجماعة التي عدت بمثابة المعين الفكري والفقهي لهذه التنظيمات، توقفت عن ممارسته في فترات زمنية.
وهذا يدفعنا إلى الوصول إلى نتيجة مهمة كثيرًا ما دللنا عليها وهي مرتبطة بخطر الإخوان، فهذا الخطر غير مرتبط بممارسة التنظيم للعنف، لكن لتأصيله أفكار العنف على مدار قرن من الزمان، لذلك وضع الإخوان أسس وقواعد التطرف بين دفات الكتب حتى يعيش أزمانًا عديدة، وبالتالي يمكن لأي شخص أو مجموعة دعوية أن تمارس العنف لمجرد استدعاء هذه الأفكار.
وهنا يجب تفكيك هذه الأفكار التي ما زالت تجد أرضًا خصبة، وتتنفس عبر بناء هيكلي للتنظيم في عدد من الدول؛ فلا يمكن مواجهة التنظيمات المتطرفة بدون مواجهة الإخوان وتفكيك أفكارهم، وهنا حديثي عن الأفكار أكثر من حديثي عن سلوك التنظيم في ممارسة العنف.
وهذا مشروع لم يلقَ اهتمامًا كبيرًا على المستوى العربي، ولم يلق رعاية بالشكل الذي نستطيع أن نقول معه إننا سننجح في تفكيك أفكار العنف خلال عقد من الزمن مثلًا، وهنا حديثي عن تفكيك الأفكار لأنها هي المقدمة المنطقية لتفكيك التنظيم ولا يمكن تفكيك التنظيم دون تفكيك أفكاره.
ومشروع تفكيك أفكار الإخوان من المشروعات المؤجلة التي لم تجد من يحتضنها أو يعتني بها أو يُقدرها ويعرف قيمتها وبالتالي يضع استراتيجيات المواجهة وفقاً لما يتحقق في هذه المساحة؛ ولعل هذه دعوة مهمة إلى ضرورة توحيد جهود المواجهة في هذا العنوان المهم دون تشتيت الانتباه إلى عناوين هامشية وربما لا جدوى من ورائها، بعضها يرتبط بسلوك التنظيم دون السعي لتفكيك أفكاره.
إن ملامح مشروع المواجهة الفكرية لا بد أن تكون قواعده واضحة ومنطلقاته الفكرية والفقهية تبدأ من حيث طرح تنظيم الإخوان منذ بداية نشأته في نهاية العشرينيات وحتى اللحظة؛ وهنا لا بد من جمع أفكار التنظيم وفتاواه ومحاولة فهمها وتفكيكها بحيث تكون الردود الفقهية على مستوى الخطاب المعاصر الذي يتناسب مع روح العصر وفي نفس الوقت يخضع لمستوى تجديد الخطاب الديني.
وهذه مهمة شاقة تحتاج إلى المؤمنين بمشروع تفكيك الأفكار المتطرفة أولًا، والمؤهلين للقيام بها ثانية؛ ولا بد للإشارة إلى أنّ مشروع المواجهة الفكرية أهم بكثير من مواجهة التنظيم على المستوى الأمني والعسكري، رغم أهمية شكلي المواجهة السابقين، لأن مواجهة أفكار التنظيم تعني ببساطة هدم أسس التطرف الديني التي شكلت وعي وأفكار كل تنظيمات العنف والتطرف فيما بعد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة