منذ انتهاء الحقبة الاستعمارية الأوروبية لدول العالم الثالث – ومنها بالطبع بلداننا العربية في خمسينيات القرن الماضي، وحصولها على الاستقلال تباعاً وشروعها في بناء نظمها السياسية الجديدة، وحتى وقتنا الحالي.
وما يتردد ويُعلن وينشر في مختلف الدوائر السياسية والإعلامية في العالم، هو أن العالم الغربي شديد الحرص على بناء وتدعيم أسس النظام الديمقراطي في بلداننا هذه.
ولقد ثارت – ولا تزال – نقاشات وخلافات كثيرة بداخل النخب العربية، سياسية وفكرية، حول حقيقة هذا الحرص الغربي ودوافعه، ومدى إمكانية قيامه بدعم تلك الأسس في بلداننا.
الحقيقة أن مناقشة هذا الحرص – أو الدور – الغربي عموماً والأوروبي خصوصاً في تدعيم الديمقراطية في بلادنا، تستلزم أن يتم البدء بحقيقة هذا الاهتمام وخلفيته التاريخية المعاصرة. وفي هذا السياق يبدو واضحاً أن الدول التي باتت اليوم تشكل الاتحاد الأوروبي، سواء الكبيرة منها أو الصغيرة، الغربية أو الشرقية، قد ضاعفت الحديث عن قضية الديمقراطية في بلادنا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 الإرهابية على نيويورك وواشنطن.
جاء هذا ضمن رد فعل أمريكي بالأساس، رأى أن نمو التطرف والإرهاب المنتسب زوراً للإسلام في مجتمعاتنا العربية والمسلمة جاء نتيجة لغياب الديمقراطية.
من هنا، يبدو واضحاً أن أساس الاهتمام الحديث الغربي عموماً والأوروبي خصوصاً بما يسمى دعم الديمقراطية لدينا، كان الحرص على الأمن والاستقرار في بلادهم، وبعدها بلادنا باعتبارها مؤثرة عليهم في هذا السياق، وليس أن تنعم شعوبنا بخيرات الديمقراطية وما تتيحه للناس من إمكانيات وطاقات هائلة لتنمية أوضاعهم الخاصة والعامة. أي أنه وبالمقابل، إذا تحقق الأمن والاستقرار المنشود من الغرب وأوروبا في بلادنا، وبالتالي في بلادهم، بأي ثمن، حتى لو كان نزع الحقوق الأساسية وغيرها من شعوبنا، فإنهم سيرحبون بذلك، وقد تجمعت شواهد ودلائل عملية عديدة خلال السنوات التي مضت تؤكد كلها صحة هذه النتيجة، في علاقات الدول الغربية عموماً والأوروبية خصوصاً ببلداننا والأوضاع السياسية فيها.
ولعل ما يثير شكوكاً أكبر في حقيقة الدعم الأوروبي خصوصاً لبناء الديمقراطية في بلداننا، هو حقيقة أن نفس الدول، التي يرى البعض أنها تدعمها اليوم، كانت هي نفسها التي احتلت بلدانا عربية لعقود طويلة من الزمن لم تسعَ خلالها لتطبيق أي نوع من الديمقراطية بها، بل كان سعيها فقط نحو نهب ثرواتها والسيطرة على مواقعها الاستراتيجية المهمة، على الرغم من أن بعضاً من تلك الدول الأوروبية بنت سمعتها العالمية على ما شهدته هي نفسها داخلياً من تطورات بل وثورات ذات علاقة مباشرة بالديمقراطية.
كذلك فإن ما يثير شكوكاً أخرى أكبر حول حقيقة الدعم الغربي عموماً والأوروبي خصوصاً لبناء الديمقراطية في بلداننا، هو مواقف الدول الأوروبية من الأوضاع الثقافية والدينية في مجتمعاتنا. فالغالبية الكبرى من هذه الدول عندما تتحدث عن النظام السياسي الديمقراطي الأمثل الذي تريده لبلادنا، فهي تتحدث عن نظام "علماني" قبل أن يكون ديمقراطياً، خالطة بصورة واضحة بين الديمقراطية والعلمانية.
فأوروبا التي هي أسيرة لنموذجها العام السياسي ذي الطابع العلماني، على الرغم من الاختلافات الواضحة بين نماذجه الفرعية، لا تتصور إمكانية بناء نظام ديمقراطي حقيقي في بلادنا دون أن يكون نظاما علمانيا، يقع الموروث الديني والثقافي الخاص بنا خارجه تماما، كما هو الحال في مختلف التجارب الأوروبية.
المشكلة الرئيسية في هذه الرؤية الغربية – الأوروبية، فيما يخص بناء الديمقراطية في بلادنا، أنها تصطدم بقوة بتكوينات وتوجهات مجتمعاتنا المستقرة ومواقف الرأي العام فيها. فبناء نظام سياسي علماني على غرار أحد النماذج الأوروبية، يخرج فيه الموروث والمعاش الديني والثقافي من ممارسات السياسة والسلطة، أمر عصي على التطبيق في بلادنا، إن لم نقل مستحيلاً بالنسبة للغالبية الساحقة من الناس.
من هنا، فإن دعم الغرب وأوروبا للديمقراطية في بلادنا ربما يستلزم قبل كل شيء أن يكون الغربيون أنفسهم ديمقراطيين، وذلك بأن يقبلوا التنوع والتعدد على مستوى مجتمعات العالم وليس فقط بداخل مجتمعاتهم، وأن يتفهموا أنه لا يوجد نموذج واحد للديمقراطية، هو نموذجهم العلماني، وأن ما عداه هو خروج كامل عن الديمقراطية، فبهذه الرؤية يحولون الدعوة لنموذجهم الديمقراطي لدعوة "دينية"، ويتحولوا هم إلى دعاة "استبداد" النموذج الواحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة