تحولت الديمقراطية من أسلوب للحكم، وإدارة شؤون الدول والمجتمعات، بصورة تحقق طموحات، وأهداف الأغلبية، وتضمن رضاء الأقلية وقبولها، إلى غاية في ذاتها، وهدف نهائي لكثير من المجتمعات المتخلفة.
تلك المجتمعات التي تعودت على إضفاء القداسة على كل القيم الكبرى، والأشخاص العظام، بصورة تعيد إلى الأذهان طبائع المجتمعات البدائية التي لا تعرف سوى ثنائية التقديس والتدنيس، فإما الشيء مقدسا، وإما لا قيمة له.
كذلك عمدت القوى العظمى المهيمنة على العالم إلى نشر ثقافة تقديس الديمقراطية وعبادتها، لاستخدامها ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأضعف، وابتزازها بالمعايير الديمقراطية، وحقوق الإنسان، كلا الطرفين: المتخلف البدائي، والمتقدم الانتهازي يستخدم الديمقراطية بنفس المنهج، وينظر إليها من نفس الزاوية، فإما تقديسا نابعا من سذاجة، وحداثة عهد بالسياسة، وقرب زمان بعهود الاستبداد والحكم المطلق، وإما فرض قداسة لأسباب انتهازية، وغايات سياسية غير نبيلة تستخدم الديمقراطية لأهداف غير ديمقراطية.
وبين شقي الرحى هذين تقع الشعوب التي لم تفطم بعد من رضاعة الاستبداد والديكتاتورية، والأحكام الأحادية المطلقة، إذ أصبحت الديمقراطية غاية في ذاتها، بل تحولت وسائل الديمقراطية، التي هي في ذاتها وسائل الوسائل، وأدوات الأدوات مثل المظاهرات، والإضرابات، وحركات الاحتجاج، والحركات الثورية، والمعارضة السياسية، كل هذه هي وسائل للديمقراطية، التي هي بدورها وسيلة للحكم الصالح، أو الحكم الرشيد، تحولت وسائل الوسائل هذه إلى غايات، وأهداف في ذاتها، يضحي من أجلها الشباب، وتنشأ في سبيل الحفاظ عليها الحركات والجماعات، وهذا الحال هو قمة السذاجة السياسية، وطريق الخراب المجتمعي والفشل السياسي.
الديمقراطية هي وسيلة لتحقيق غاية أساسية وهي الحكم الرشيد، أو الحكم الصالح، أو الحكم الذي يحقق مصالح الناس، ويبعد عنهم الفساد، ويحافظ على وجودهم وسعادتهم، ورخائهم واستقرار مجتمعاتهم وسلامها وسلامتها، ثم إذا تحقق ذلك تكون الديمقراطية وسيلة لضمان استمرار هذا الحكم واستقراره وعدم انحرافه عن مقاصده وغاياته، وذلك من خلال عمليات التصحيح المستمرة التي تكافئ الناجح، وتعاقب الفاشل.
والحكم الرشيد أو الحكم الصالح لا يتحقق إلا بسيادة القانون، أو ما يعرف في عصرنا بحكم القانون The Role of Law، وهنا يكون حكم القانون، أهم من الديمقراطية، لأنه هو أساسها، وغايتها، ومقصدها الأعلى، وإلا كانت الديمقراطية هي حكم الغوغاء، والرعاع، وهي الفوضى، وخراب المجتمعات وعدم استقرارها، وفقدانها للسلام الاجتماعي.
وحكم القانون هو الذي ينظم كيفية ممارسة الديمقراطية، وإجراءات هذه الممارسات، ومعاييرها، وقواعدها، فجميع مراحل العملية الديمقراطي تحتاج إلى قانون ينظمها، فالانتخابات تحتاج إلى قانون، والمظاهرات تحتاج إلى قانون، والعمل الحزبي يحتاج إلى قانون، حتى الإضرابات تحتاج إلى قانون، والشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى قانون هو الحركات الفوضوية.
وحكم القانون هو أساس بناء المجتمعات والدول، فالنظام الاجتماعي يبدأ عندما يكون هناك قانون تشريعي، أو عرفي؛ يخضع له الجميع، الغني والفقير، القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، وبعدم وجود القانون، ونشوء نظام قضائي ينشأ المجتمع الإنساني، وقبل ذلك هو حالة غرائزية تحكمها الشهوات والعضلات.
وبالنظر في تجارب المجتمعات الناهضة، والدولة التي حققت التنمية الاقتصادية، ثم السياسية مثل دول جنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، نجد أن حكم القانون يأتي قبل الديمقراطية كشرط من شروط تحقيق التنمية، والازدهار الاقتصادي، والرخاء الاجتماعي، فعملية التنمية الاقتصادية تحتاج إلى حكم القانون أكثر من احتياجها للديمقراطية.
فكوريا الجنوبية حققت نهضتها التنموية من خلال حكم القانون قبل أن تتبنى نظام الحكم الديمقراطي، لذلك فإن حكم القانون هو الشرط الأساسي لتحقيق التنمية، وليس الديمقراطية التي يمكن أن تأتي بصورة أنضج بعد تحقق التنمية الاقتصادية، إذ لا يمكن بناء حكم سياسي ديمقراطي في بلد فقير، يبيع الإنسان فيه صوته الانتخابي بكيس من الأرز أو زجاجة من الزيت.
والمقصود بحكم القانون ليس الشعار، وإنما الممارسات العملية البسيطة؛ التي يمر بها الإنسان في حياته اليومية، بأن يحصل على حقه، ولا يعتدي عليه أحد، ولا يظلمه أحد، ولا يهدر كرامته أحد، ولا يتم التمييز ضده، ولا يكون ضحية للفساد والمحسوبية والرشوة، وذلك بأن يحصل على ما هو مستحق له بصورة يحددها القانون، وليس الشخص الذي ينفذ القانون.
حكم القانون هو أن تحصل على العلاج دون واسطة، وأن تحصل على رخصة قيادة السيارة دون رشوة، وأن تتقدم للوظيفة دون محسوبية.
حكم القانون هو العدل، وهو العدالة، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وهو تمام التسوية بين المتشابهين، ورحم الله أستاذنا العلامة حامد ربيع حين علمنا أن القيمة العليا في الإسلام هي العدل، وليست الحرية ولا المساواة، فالعدل هو الذي يضمن تحقيق الحرية العادلة، والمساواة العادلة، والعدل هو غاية حكم القانون وجوهره، ثم تأتي الديمقراطية كوسيلة لضمان استقرار واستمرار العدل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة