قرار أردوغان بتجميد التنقيب في المتوسط وإيجه لم يكن نابعا من قناعته بالحوار وسيلة لحل الخلافات مع اليونان، وإنما لقناعته بأن المضي في التصعيد، سيؤدي إلى مواجهة حتمية معها.
بعد تهديداته ضد اليونان، وإرسال سفن للتنقيب عن النفط والغاز قبالة جزرها في بحري إيجه والمتوسط، أعلنت تركيا وقف عمليات التنقيب عن الطاقة هناك، والسؤال الذي يبادر إلى الذهن سريعا، لماذا أوقفت تركيا عمليات التنقيب قبالة الجزر اليونانية فجأة ؟ من دون شك الإجابة السريعة عن هذا السؤال، تحيلنا مباشرة إلى معرفة الجميع بأن أردوغان لا يعرف ولا يفهم إلا لغة القوة في حل المشكلات الخلافية، فهذا ما جرى على الأقل عندما أظهر له بوتين العين الحمراء عقب إسقاط تركيا مقاتلة روسية في المنطقة الحدودية السورية - التركية قبل سنوات، وهو ما أجبر أردوغان على الاعتذار لموسكو بعد أن رفض ذلك لأسابيع، وكذلك هذا ما حصل عندما أفرج أردوغان فجأة عن القس الأمريكي برونسون بعد أن هدده ترامب بعقوبات قاسية، علما أنه كان يرفض الإفراج عنه بحجة أن قضيته بيد القضاء التركي، وعليه لا يمكن النظر إلى قرار أردوغان بوقف التنقيب عن الطاقة قبالة السواحل اليونانية إلا من زاوية الخوف من تداعيات الذهاب إلى مواجهة عسكرية مع اليونان، وهو خوف نتج عن جملة من الأسباب المركبة والمتداخلة، ولعل أهمها:
1- اليونان أدركت جدية الخطر التركي، وسارعت إلى نشر بوارجها وسفنها الحربية، واستنفرت قواتها العسكرية وطائراتها الحربية، وأكدت تصميمها على منع أردوغان من وضعه يده على مصادر الطاقة في بحري المتوسط وإيجه. وعليه، بدا أن خيار المواجهة العسكرية بات مرجحا وهو ما دفع بأردوغان إلى مراجعة حساباته، خاصة وأن حساباته باتت معقدة ومتشعبة ومتداخلة في ظل تورطه العسكري في ليبيا وسوريا والعراق وإقليم كردستان.
2- يدرك أردوغان أن أي مواجهة عسكرية مع اليونان، تعني الصدام مع أوروبا التي باتت تدرك أهمية رفع العصا الغليظة في وجهه، بعد أن فشلت العقوبات الأوروبية الشكلية في ردعه عن مشاريعه التي تمس جوهر الأمن الأوروبي، فالقضية هنا لا تتعلق باليونان وحدها، بل بمجمل أمن دول القارة الأوروبية، إذ أن مشاريع أردوغان مع السراج في المتوسط لا تهدد ليبيا ودول الجوار الجغرافي لها فحسب، بل تحول المتوسط إلى قاعدة لابتزاز أوروبا أمنيا، ليس باللاجئين فقط وإنما بالإرهابيين والمرتزقة بعد أن حولهم أردوغان إلى ورقة استخباراتية بيده لتحقيق أجنداته في العديد من مناطق العالم، واللافت هنا، هو أن الموقف الفرنسي الداعي إلى معاقبة أردوغان أصبح رافعة للموقف الأوروبي المتصاعد في مواجهة أردوغان، ولاسيما ألمانيا التي أرسلت فرقاطة عسكرية إلى المتوسط دعما لعملية إيريني الأوروبية، فضلا عن التدخل القوي للمستشارة ميركل على خط الأزمة بين اليونان وتركيا، وهو ما منع المواجهة.
3- الموقف الأمريكي الذي بدا مطالبا لأردوغان بوقف سياسة العسكرة في المتوسط وإيجه، وهو موقف ينبع من أن أي مواجهة بين تركيا من جهة واليونان والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، لن يكون المستفيد منها سوى الجانب الروسي، وهو ما لا تريده واشنطن. وعليه أرسلت رسائل حازمة لأنقرة بضرورة وقف التصعيد، ولاسيما بعد أن دخلت مع الجانب القبرصي في مناورات وتدريبات عسكرية في المتوسط.
الثابت، أن قرار أردوغان بتجميد التنقيب في المتوسط وإيجه لم يكن نابعا من قناعته بالحوار وسيلة لحل الخلافات مع اليونان، وإنما لقناعته بأن المضي في التصعيد، سيؤدي إلى مواجهة حتمية معها بعد أن استعدت اليونان للحرب جيدا، وإلى اصفطاف أوروبي إلى جانب اليونان، وهو ما سيؤدي إلى تداعيات كارثية على حكم أردوغان في ظل الأزمات التي يعاني منها نظامه في الداخل، حيث انهيار شعبيته، وتفكك حزبه الحاكم، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وتصاعد الدعوات المطالبة برحيله من خلال إجراء انتخابات مبكرة، ولهذه الأسباب مجتمعة وجد أردوغان في قرار تجميد التنقيب مناورة سياسية بامتياز، فمن جهة يهدف من وراء ذلك إلى قطع الطريق أمام الموقف الفرنسي الداعي إلى موقف أوروبي رادع لأردوغان، ومن جهة ثانية لإظهار سياسته وكأنها منسجمة مع الحلول السياسية ومتجاوبة مع الوساطات الدولية في هذا المجال، ولاسيما بعد التحركات الألمانية والإسبانية بهذا الخصوص، لكن الواضح، أن مناورة أردوغان مكشوفة، ليس لأنها تتناقض مع استراتيجيته الهادفة إلى فرض سياسة أمر واقع في المتوسط وإيجه، بل لأن الحلول السياسية تضع الكرة في ملعبه، وهو ما يعني ضرورة التزامه بالقرارات والقوانين الدولية وعلاقات حسن الجوار، و وقف دعمه للإرهاب والجماعات الإرهابية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة